-
menu
(جريدة الشروق في 13 أكتوبر و 20 اكتوبر 2022)
المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر بتونس …تسلسل الأزمات.
لا يزال يمثل المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر موضوع جدل يعكس مدى الأزمة التي انحبس فيها منذ انطلاقته الفعلية في 21 مارس 2018 ومنذ الإعلان عن تأسيسه بمقتضى الامر الحكومي عدد 381 لسنة 2018 المؤرخ في 23 أفريل 2018، ليصبح مؤسسة عمومية لا تكتسي صبغة إدارية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي.
ولعل الأزمة تسبق هذا التاريخ، فلجنة شراءات الدولة التي تم تكوينها منذ السبعينات والتي تهدف إلى تكوين رصيد المتحف للفنون التشكيلية لم تُفلح خلال عقود في تحقيق هذا الهدف. فآلاف الاعمال الفنية التي تم اقتناؤها قد أُتلِف كثيرها لسوء التصرف فيها وقلة الاعتناء بصيانتها وتوثيقها. والحال أنها جزء من التراث التونسي الذي لا يُقَدَّر بمال.
ومن علامات هذه الأزمة التي عرفها المتحف مند انطلاقته في مدينة الثقافة، تعدد إداراته في ضرف وجيز من الزمن. فقد انتهت الادارة الاولى المؤسِّسة له باستقالة مديرها العام بعد سنة من الشغل. اما الادارة الثانية فقد تم إقالة مديرتها العامة بعد أربع سنوات من تعيينها، إذ لم تتمكن خلال هذه المدة من تنظيم المعرض الافتتاحي المرتقب، وصولا إلى الإدارة الثالثة التي تم تعيين مديرها العام منذ أشهر قليلة ليُكلَّف مباشرة بتنظيم معرض بمناسبة ملتقى "تيكاد". معرض غطى الفترة الزمنية من 1850 الى 2020 وقُدِّم على أنه المعرض الأكبر في تاريخ الفنون التشكيلية.
وما زاد في الطين بِلّة غياب التنسيق بين إدارة الفنون التشكيلية وإدارة المتحف الذي عطّل تحويل الاعمال من مخازن الرصيد الوطني بقصر السعيد الى مخازن المتحف بمدينة الثقافة.
ولعل هذا المعرض الأخير زاد في هذه الأزمة المتعلقة بالمتحف، إذ افرز عديد المواقف المتضاربة:
رأى البعض أنه ناجح واعتبروه استجابة لتحقيق الافتتاح الرسمي المرتقب للمتحف رغم أن منظميه لم ينصّوا على صفته هذه.
واستغرب وزير الشؤون الثقافية الأسبق في تدوينة له لما يروجه البعض عن موضوع افتتاح المتحف والحال أن هذا الافتتاح قد تم منذ 2018.
وعلّق المدير العام الأسبق الذي تابع تأسيس المتحف سنة 2018، أن المعرض الافتتاحي كان مشروعا اشتغلت عليه ادارته صحبة مجموعة من الفنانين، الا أنه لم يتحقق بعد. وما أنجز هو المعرض ما قبل الافتتاحي "نحتي ومنحوت" الذي تم تنظيمه في 21 مارس 2018 بمناسبة افتتاح مدينة الثقافة. وذكّر بان المعرض الافتتاحي حدث كبير ذا ابعاد وطنية وعربية وعالمية لا بد من الوقوف عندها وليس هكذا معرض مناسبتي.
وعبر البعض عن استغرابهم لهذا المعرض الذي بات غامضا إذ لم يفصح بصفة جلية عن طبيعته وتساءلوا إن كان معرضا عاديا أم افتتاحا رسميا للمتحف؟
وأجهر آخرون عن ضعفه، اذ بات معرضا دون مفهوم يحدّده ويربط بين أعماله، وعبروا عن ضعف النص المقدم له الذي اتى تحت عنوان مستفز: "هذا هو المعرض".
استغلت بعض الآراء الأخرى المناسبة لتؤكد على أن هذا المتحف هو في النهاية ليس متحفا. فهو كما ورد في المثال المعماري لمدينة الثقافة يتمثل فقط إلا في قاعات عروض ثلاث غير كافية لتغطية أنشطة المتحف، تجاورها خمسة مخازن مخصصة لحفظ الرصيد الوطني للفنون التشكيلية ليست تابعة له. ولعل مثل هذا الطرح يُشرّع ما دأب عليه المتحف بداية من سبتمبر 2018 من تقديم لمعارض مناسبتية آخرها المعرض الذي نُظّم بمناسبة تظاهرة "تيكاد".
ويرى آخرون في هذا السياق أن المتحف لا يمتلك قانونيا بنايته التي هي جزء لا يتجزأ من مدينة الثقافة. مما يجعله عديم الاستقلالية بل مشروعا هلاميا. وإن قبلنا بهذه الفرضية، فيعني ذلك أن كل المؤسسات الثقافية في المدينة الثقافية هي أيضا هلامية: الاوبرا ومركز العرائس والمعهد الوطني للترجمة وغيرها. والمعلوم ان الامر الحكومي الذي سبق ذكره والذي يضبط مشمولات المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر لم ينص على تحديد موقعه الجغرافي واكتفى فقط بالإشارة الى مدينة تونس كعنوان له. ونفس الشيء بالنسبة لمسرح الاوبيرا ومركز العرائس.
إن تعدد القراءات واختلاف الآراء حول المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر، يؤكد على هذه الازمة التي يعيشها. ونقدم بطريقة موجزة بعض المقترحات التي نراها مناسبة لتخطي هذه الازمة:
· لضمان حسن سير المتحف وجب تعيين مختصين في المجال على رأسه، تكون لهم خبرة في التسيير الإداري ومعرفة بتاريخ الفن واشكالياته.
· لتوفير مساحات أكبر للمتحف، نقترح الحاق المخازن رسميا بهذه المؤسسة على ان نُبقي على المخزنين الكبيرين القادرين على استقبال 5000 عمل فني - بمعدل متر مربع للعمل الواحد - لوظيفة خزنها وتوظيف المخازن الثلاث المتبقية للمعارض والورشات. وفي المقابل الشروع في بناء مقر مناسب في ضواحي العاصمة يستقبل الرصيد الوطني للفنون التشكيلية المتزايد من سنة الى أخرى.
· اما الإشكاليات العقارية لمباني المؤسسات المتواجدة في مدينة الثقافة ومن بينها المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر، فإننا لا نرى أن هذه الوضعية تمثل عائقا حتميا، مادامت هذه المباني تعود إلى الدولة وهي قادرة على تفويتها لهذه المؤسسات لتسوية وضعياتها العقارية.
· وفيما يتعلق بعلاقة المتحف بالرصيد الوطني للفنون التشكيلية التي أحدث عديد المشاكل بين إدارة المتحف وإدارة قسم الفنون التشكيلية، فهي تُنظم وفق الباب الخامس لقانونه الاساسي الذي ينص عليه الامر عدد 381 وتحديدا في الفصل 27، حيث نفهم ان مجموعات المتحف تتكون مما تسنده الدولة له من اعمال فنية تتصرف فيها والتي ترى إدارة المتحف أنها ضرورية لأداء مهامه، حيث يتم ضبطها بمقتضى اتفاقية تبرم للغرض بين المتحف والوزارة المكلفة بأملاك الدولة والشؤون العقارية. كما تتكون أيضا من الهبات ومقتنيات المتحف وغيرها من القنوات الأخرى.
ما نأمله هو تجاوز هذا التذبذب في الرؤيا الذي تراكم خلال الخمس سنوات الأخيرة حول ماهية المدينة الثقافية من جهة والمؤسسات التي تستقبلها من جهة أخرى، وتصور نظام قانوني واضح يضمن الاستقلالية العقارية والادارية للمؤسسات المتواجدة في مدينة الثقافة من جهة، ومن جهة أخرى وحدة هذه الأخيرة التي من شانها ان تضمن لزائريها تنوع المنتوج الثقافي. وهي مسالة في غاية الإيجابية. والخطر هو أنه لا يزال البعض يسعى أن يستخدم مدينة الثقافة كوحدة غير مجزئة، لتصبح المؤسسات التي تعمل ضمنها فرعية وليست إدارات مستقلة، وهذا ما سيضعف حضورها على الساحة الوطنية والدولية.
صحيح أن ما كنا نتمناه هو مؤسسة متحفية تسع لقاعات أكثر للعرض ولخزن الاعمال... الا ان التفريط فيما هو موجود ومُتاح وقابل للإصلاح قد يجرنا الى نقطة الصفر. علما وان الأرض المجاورة جنوبا لمدينة الثقافة والتي كان من المفروض ان تستقبل متحف الحضارات، قد تكون أُلحقت برآسة الحكومة. وهو خبر شاع في بداية عام 2018. ونتمنى ان لا يكون صحيحا.
فتحت الوزارة أخيرا تقديم الترشحات لوظيفة الإدارة العامة للمتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر وحددت آخر اجل لها في 9 سبتمبر 2022. ما ينتظره المدير العام القادم للمتحف، ليس هينا. نأمل ان يكون كفاءة من أهل الاختصاص. كل التوفيق له.
سامي بن عامر