-
menu
"ذاكرة تتجدد ":
اركيولوجيا المكان بين تمثلات الانا وكونية المحلي.
تتعلق هذه المداخلة بتجربتي الفنية التي انجزتها ببرج المنيف في إطار تظاهرة "فلننقذ الأبراج" والتي نظمتها جمعية احباء الفنون التشكيلية ببرج القلال وانتظمت خلال 23 و24 ماي 2016. وبرج المنيف يعد من أقدم الابراج في مدينة صفاقس وهومن بين العديد منها المهددة اليوم بالسقوط. وتضمنت هذه التجربة، تنصيبة انجزتها ضمن الفضاء الداخلي لهذا البرج، يصاحبها شريط فيديو يدوم 14 دقيقة، وهو موثقا لها ومبرزا لأبعادها الفنية والمفهومية ولمراحلها الانشائية، وتم عرضه في خيمة مجاورة لهذا البرج خلال اليومين المخصصين للتظاهرة.
وعلاقتي بمفهوم اركيولوجيا الذاكرة ليس معطى جديد. فمعرضي الشخصي "الأرض البكر" الذي انتظم سنة 2009 برواق "الفيولون البلو" بسيدي بوسعيد، كان قد طرح نفس هذا الموضوع. فالحروف المسمارية التي تمثل اول لغة عرفتها البشرية والاحافير السمكية والحلزونية وغيرها التي اعتمدها في رسومي، تحيلني الى بدايات غابرة والى ذاكرة اسعى الى النبش فيها. وعلاوة على البعد المفهومي التي تُأسس له عبارة اركيولوجيا الذاكرة في تجربتي هذه، فإنها ايضا تساعدني على تصور التقنية الملائمة لها. فانا اراكم اشكالي الخطية من كتابات مسمارية واحافير وقرافيزمات وخامات عجينية، اتربة ومواد من الطبيعة، والتي تصنع نتوءات على مساحة اللوحة، لأعود الى النبش والحفر فيها من جديد، فأعري بعضها واستحضر كما يستحضر الاركيولوجي ما خفي عن السطح. فالذاكرة والسعي الى استحضارها والحفر فيها، مسائل تلازم اعمالي منذ 2009. والفكرة بدت منذ 2007 في معرضي الخاص بعنوان "جلال الأرض" وتحديدا في لوحة "نبش." وتواصلت الى آخر معرض لي بـ 2016 بعنوان طبيعة حميمة .
وان تعلق مفهوم اركيولوجيا الذاكرة بهذا التمشي في اعمالي التصويرية السابقة، فان نفس هذا المفهوم أخذ شكلا مغايرا في تجربتي "ذاكرة تتجدد"، غير انه بقي على نفس الهدف والغاية.
فمعنى اركيولوجيا الذاكرة في هذا الإنجاز الفني، مرتبط بمكان برج المنيف كسطح جغرافي، لكن أيضا بفضائه الداخلي وبالأغراض التي يحتويها. مما يفضي بنا الى مفهوم اركيولوجيا المكان المعتمد في عنوان هذه المداخلة والذي يقصد به تفحص لذاكرة هذا المكان بامتداداته، وتنقيب عن معانيه التي نسجها التاريخ والفتها الأزمنة، معان تصبح مادة نستنير بها في مشروعنا الفني. انه حوار مع زخم الذاكرة وتحيين لها.
ولعل تعلقي بهذا المكان، ناجم عن تقطع اوصال ارتباطي به وهو الذي يحيلني الى طفولتي. اركيولوجيا المكان إذا، هي اركيولوجيا الذاكرة الشخصية الممزوجة بذاكرة جماعية. بذلك يصبح هذا المكان عنوان هوية، وهو الجذر الغائص في الأرض الذي نسعى الى استعادته واعادة تملكه. وفي هذا المعنى، تستشهد ماريفون سيزون في محاضرة لها بما كتبه كلود لويس كومبات، حيث يقول هذا الاخير ان "الذاكرة تتجذر في هذا السماد الوجودي اين يختلط الخيال بالحسي" ويضيف " في هذا الغلاف الجسدي والحسي الذي يحتضن الطفل في طفولته ويطبع انتماءه للعالم" "يتحدد انتمائه و"تتجذر الجمالية"[1]
وسنتعرض في هذه المداخلة الى مفهوم الانشائية المتدرجة التي اعتمدها في هذا المنجز، متسائلا كيف تتشكل جدلية العلاقة التي تربط هذا المكان الذاكرة بممارستي الفنية، وكيف تمثل هذه الاخيرة تجاوزا لهذا المكان كبعد موضوعي لتصبح مرتبطة بتمثلات الفنان. كما سأفسر، كيف تحول الممارسة الفنية مكان الذاكرة الى مادة تواصل فاعلة مع الجمهور المحلي، وكيف تساهم أيضا في ترسيخ طابعه الإنساني والكوني.
الانشائية المتدرجة وجدليتها مع المكان
ان طريقة العمل عبر انشائية متدرجة، تمثل منهجية اعتمدتها طيلة مسيرتي الفنية. ففي كل رسوماتي التي انجزتها، كنت دائما أقسم العمل إلى درجات مختلفة منفصلة بعضها عن بعض. ذلك لما تفرضه هذه الطريقة من عديد الاحتمالات العملية الممكن توخيها في انشائية العمل وتمنعني من توقع النتيجة النهائية قبل الأوان. فبإبقاء الصيغة النهائية للعمل مفتوحة، أتمكن من استغلال وتوظيف أكثر قدر ممكن من مدركاتي وأحاسيسي. فكل درجة تفرض قرارا ونتيجة مؤقتة، دون أن أتوصل إلى الكشف عن علاقتها المباشرة بالنتيجة النهائية.
إن السياق الإبداعي هو إذا هذا المجال الزمني المتغير والمتقطع، المتراكم والمتناثر، الا انه أيضا، مجالا يفضي الى عمل فني متكامل يتفاعل فيه بطريقة جدلية الفعل والتفكير، الصدفة والتحكم، الوعي واللاوعي، المتوقع واللامتوقع، الهدم وإعادة البناء، الأنا والآخر.
وان تعلقت هذه الدرجات في رسوماتي بمراحل مختلفة تخص انشائية اللوحة، فان درجات العمل المختلفة في هذه التجربة "ذاكرة تتجدد" متفرعة ومفككة وفق تنوع الوسائط الفنية المعتمدة فيها، رسما وصورة وتنصيبة، ووفق تواترها زمنيا، مما يشكل انشائيتها المتغيرة والمتدرجة المتصاعدة ويحدد جماليتها وابعادها المفهومية.
خمس درجات او مراحل تؤسس لإنشائية هذا الإنجاز الفني:
تعرف المكان والتفاعل معه عبر التصوير الفوتوغرافي والفيديو
عودتي الى المرسم لإنجاز مجموعة من الرسومات المسطحة والمحجمة والمتناغمة مع فضاء برج المنيف.
توضيب التنصيبة في فضاء برج المنيف والتفاعل مع هذا الفضاء من جديد عبر التصوير الفوتوغرافي والفيديو
كتابة نص مُقدِّم للتجربة ولمفهومها ولأبعادها الفنية والحضارية، ثم تركيب شريط الفيديو التشكيلي وفق هذا النص وتسلسله والذي تحول مقروءا في هذا الشريط.
عرض المنجز امام الجمهور والالتحام بهذا الاخير.
انجاز هذا العمل الفني "ذاكرة تتجدد"، بدأ فعليا منذ اللحظة التي دخلت فيها هذا الفضاء التراثي. ومنذ ان اكتشفت فيه مكوناته المعمارية، من أرضية وجدران ومدرج ونوافذ، او مكوناته الضوئية، من تأثيرات للضوء والظل والظلمة ولتبايناتها، او مكوناته النسيجية، من جدران مهترئة وارضية مغطاة غبارا.. او مكوناته المتعلقة بالأغراض القديمة الحاضرة فيه، كالمحراث والمحشة والقرداش والحصير وقفل الدواب والماجل والكليم وغير ذلك... كل هذه العناصر الثرية بصريا وملمسيا ورمزيا، دفعتني الى التفاعل معها بداية عبر عدسة الكاميرا. لقد كانت الصورة الثابتة والمتحركة خير وسيلة لتسجيل حضوري الاولي في هذا المكان. انه استكشاف له. انه رحلة لا متوقعة، كرحلاتي التي اخوضها وانا ارسم حيث اكتشف وانا اعمل. فكان هدفي ليس تصوير المرئي، بقدر ما هو تصوير ما يخفيه هذا الأخير. ليس توثيق ما هو معطى بصريا، بقدر ما هو إدراك خصوصي له، إدراك تمتزج فيه ذاتي بكل ابعادها الذهنية والفنية والثقافية الانتربولوجية مع ما هو معطى بصري وموضوعي.
ومستلهما بما تحصلت عليه من صور ثابتة وفيديو من هذه الزيارة، ومستعينا برسوم بيانية لمشاكي وجدران هذا البرج حملتها معي، عدت الى مرسمي في درجة ثانية لأشرع في انجاز مجموعة من الرسوم المعدة لهذا الفضاء، متجاوزا مفهوم اللوحة التقليدية والمؤطرة. لقد أردت ان يكون فضاء برج المنيف موقعا تتفاعل فيه رسومي لتنصهر في جدرانه ونوافذه. وهو ما دفعني الى انجاز مجموعتين من الرسوم. مجموعة أولى أنجزتها على محامل خشبية مسطحة ومصممة اشكالها وفق مقاسات فضاء برج المنيف ومعماره. كاللوحات ذات الشكل المقوس او الشكل المستطيل والتي تنصهر في مشاكي البرج المختلفة احجامها واشكالها. ومجموعة ثانية لرسومات انجزتها على مساحات أغراض حميمة مثلثة الابعاد تحيلني الى ذاكرة البرج ونشأتي الطفولية فيه. مثل المائدة ذات جلد الخروف، اوالغربال او البندير او القبقاب او "عصى البازين" ("المدلك") او خشبة قديمة استحضرتها من البرج الذي نشأت فيه. معتمدا في رسومي كتابات وتأثيرات لمسية ولونية سعيت ان تكون ملائمة لهذا المكان.
اما الدرجة الثالثة، فتتمثل في العودة من جديد الى برج المنيف وتوضيب تنصيبة ضمن فضائه الداخلي بالاعتماد على ما انجز من رسوم مسطحة ومحجمة وما وجد في هذا الفضاء من أغراض قديمة، بالاستعانة بفريق من طلبتي. وان خُصّت بعض الرسومات لأماكن محدّدة، فان البعض الآخر وجد مكانه وفق تفاعلي الحيني على عين المكان. وكانت حاجتي كبيرة بعد إتمام توضيب هذه الاعمال الى إعادة تصوير هذا الفضاء التنصيبة، وذلك لإثراء واتمام شريط الفيديو الذي شرعت فيه منذ زيارتي الأولى لهذا البرج، تسجيلا لتحوله النوعي وابرازا لأبعاده التشكيلة الجديدة.
اما الدرجة الرابعة في انشائية هذا الإنجاز الفني، فتمثلت في كتابة نص ضمنته تقديما لهذا الإنجاز وعرضا للبعد المفهومي الذي أسس عليه وشرحا لإنشائيته ولأهدافه الفنية والرمزية والحضارية. نص نهلت معناه من تجربتي الحسية والذهنية والجسدية التي عشتها في هذا البرج كما عشتها في مرسمي. وقد اعتمدت هذا النص كسيناريو في تركيب ما انتقيته من صور بالفيديو في برج المنيف، مستعينا تقنيا بأحد طلبتي احمد العكاري والذي هو نفسه الذي تولى تصويري بالكاميرا عندما وجب ان أكون في هذا الشريط موضوع الصورة الملتقطة. ولعل هذا ما جعل من هذا النص، العمود الفقري لهذا الشريط. وما سعيت اليه هو إيجاد التواصل بين الصورة والنص إضافة الى التواصل بين الصورة والموسيقى التي استعرتها من ابداعات الفنان محمد علي كمون الذي اشتغل هو نفسه على مسالة العلاقة التي تربط الموسيقى بالتراث.
وقد اعتبرت شريط الفيديو هذا تشكيليا لعديد الاسباب:
لأن تعاملي مع الصورة كان اساسا انطلاقا من رؤية تشكيلية للفضاء الداخلي للبرج، سواء كان ذلك خلال زيارتي الأولى او الثانية له. وسنستشهد لاحقا بأمثلة في هذا الغرض.
وهو تشكيلي أيضا لأنه يفتح مجالا لإبراز انشائية هذا الانجاز ودرجات تطوره. وهذا يفسر مدى مكانة الانشائية في نظري مقارنة بالخطاب الجمالي والنتيجة النهائية. علما انني اعتبر أيضا ان الانشائية والحكم الجمالي للفنان وهو يشتغل، في علاقة جدلية تامة.
اما الدرجة الأخيرة في هذه التجربة الفنية، فتتمثل في عرض هذا المنجز الفني امام الجمهور. عرض استمر خلال يومي 22 و23 ماي 2016. وان اعتبرت هذه المرحلة جزء من الإنجاز، فذلك لخصوصية طريقة العرض التي اضافت له. فقد توزع على خيمتين مجاورتين للبرج. خيمة لعرض الاعمال الفنية المتضمنة للتنصيبة والتي تم اللجوء اليها إثر القرار المفاجئ الذي صدر عن معهد التراث قبيل بضعة أيام من المعرض، والقاضي بمنع الجمهور من دخول البرج خوفا من سقوطه. وخيمة ثانية لعرض شريط الفيديو الذي أصبحت أهميته بالغة في غياب التنصيبة داخل البرج، وذلك لأنه كان ايضا موثقا لها بالصورة علاوة عن بعده الفني.
ولعل ما افضت اليه طريقة العرض هذه والتي تجاوزت الطريقة التقليدية في هذا الشأن، هي فكرة الحضور الفني عن قرب. فكرة توحي لنا بإمكانية نقل هذا المعرض بخيمتيه الاثنتين في امكنة أخرى وحتى في شوارع المدينة. وقد وصف الزميل الناقد محمد بن حمودة الشريط الفيديو الذي قدم في الخيمة، بسينما الجيب.
2. لا معنى لمكان الذاكرة خارج تمثلاتنا وخيالنا
ان الذاكرة والتي هي القدرة على التذكر، لا يمكن لها ان تُستخدم الا برغبة منا وبالشعور بالحاجة لها وبوعينا بأهميتها. وان تتطلب بالنسبة للفنان حافزا موقظا لها، كالمكان مثلا، الا ان هذا الأخير سوف لن يكون هو ذاته النتيجة. وانما النتيجة، هو ما يفضي اليه الفنان من مقاربة تختزل المكونات الموضوعية والرمزية لهذا المكان ليُقدم من جديد في صيغة فنية خصوصية وفريدة. وليس هناك طريقة واحدة للعمل.
ان التفاعل إذا في عمل فني مع المكان، لا يعني حصرا استحضار وابراز المكان ذاته. ذلك انه لا معنى لهذا الأخير خارج حضورنا وتمثلاتنا وخيالنا ايضا. ليس هناك مكان خارج ادراكنا ونظرتنا له. لذلك فان العودة الى مكان ما من الذاكرة، هو العودة الى هذا المكان والى أنفسنا ايضا. ثمة جدلية تحدث بين هذين الاثنين لنفضي الى العمل الفني.
يكتب فرانسوا سولاج في هذا الموضوع متحدثا عن فضاءات الذاكرة في علاقتها بالفن وينعتها بالحقائق المعقدة: " الفن ليس مادة مضافة لهذه الحقائق المعقدة: بل انه يجدد هذه الحقائق، وهذه الحقائق تجدده: هناك جدلية متصاعدة يتم تفعيلها بين هذين القطبين المجتمعين، الى حد ان الفن هو مسكون بمشكل الفضاءات الحبلى بالذاكرة وبذاكرات ثقيلة بالفضاءات[2]"
يصبح المكان الذاكرة الموظف في العمل الفني مسكونا بشيء هو أكثر من المكان. انه أضخم منه. وهذا ما يضاعف معنى هذا المكان. فالأغراض التي عثرت عليها في هذا البرج كالمحراث والمحشة والقرداش وقفل الدواب والحصير والكليم او المكونات المعمارية التي تفاعلت معها كالمدرج والماجل والنوافذ، اخذت في هذا الشريط معنى مضاعفا ومختلفا عن معناها الموضوعي. اذ اصبحت موضوع تأمل انطلاقا مما تختزله من ابعاد روحيه ورمزية وأنثروبولوجية وشخصية، ومادة يمكن تغييرها وتحويلها عن طريق تفكيك معناها الاولي الموضوعي وإعادة قراءته وصياغته من خلال زاوية تشكيلية، مما يفضي عليها واقعا جديدا. تصبح هذه الأغراض شيئا آخر.
فالوحدة التصويرية مثلا التي خصصتها للكليم الذي عثرت عليه ملقى على أرضية برج المنيف في زيارتي الأولى له، والذي كان معفنا بسبب الغبار الذي غمره والرطوبة التي اهلكت نسيجه، والذي تحول في شريط الفيديو في وضعية متحركة، متحولة وراقصة وقد تكون شبقية، موحية لنا بشخوص رومانسية تتفاعل فيما بينها وتتعانق، هذه الوحدة التصويرية، تمثل نتيجة تناغم بين عدسة الكاميرا وهذا الكليم. كاميرا امسك بها بيدي اليمنى لتتجول على مساحة الكليم وهذا الأخير الذي أشرع باليد اليسرى في تحريكه. كما انه نتيجة تفاعل ادراكي له لمسا ولونا وشكلا. وان كان تصوير هذا الكليم تلقائيا وخاضعا للصدفة وللامتوقع، فان عملية تركيب الصور الملتقطة له، تصبح جد مدروسة وموجهة ومفتوحة على قراءات مختلفة.
نفس الشيء بالنسبة للوحدة التصويرية المتعلقة بالماجل، والتي تطلعنا الكامرا على جوفه المظلم، حيث يلوح انعكاس صورتي في الماء القابع في عمقه. ونشاهد هذه الصور في الشريط، اواصل بصوت محمل بالصدى، الحديث عن الصور الحميمة التي عثرت عليها في هذا البرج، والتي تحيلني الى طفولتي، كالحصير الذي كان يجمع افراد العائلة والقرداش الذي كان الصوف يتفكك بين اسلاكه الحديدية والذي كانت تحركه يدا والدتي العزيزة المرحومة. صور مرئية وصوتية موسيقية ونصية تتفاعل فيما بينها وتجتمع في فضاء هذا الماجل المغلق والمفضي الى بريق ماء مستقر، لتحيلنا الى معنى الحميمي والرحم والاولي، أي الى فكرة الانتماء.
نفس الشيء حصل مع تأثيرات الظلمة الداخلية المتباينة مع النور الخارجي، او مع ركام الأغراض القديمة المتناثرة، او مع الجدران التي تحكي قصص تآكلها عبر الزمن، ومع الخربشات الموزعة على جدرانه والمسجلة لذكريات زائريه، ومع الغبار المتراكم والذي يفسح لبصمات خطوات زائريه ومع قفل الدواب ... ومع الحركات البصرية وذبذباتها والتأثيرات التشكيلية التي انتجتها "عصي البازين" العالقة في سقف مثقوب في ركن من فضاء البرج، إثر تحرك عدسة الكاميرا وتحول تأثير الضوء عليها.
ان مكان الذاكرة عندما يخترقه الفن يتحول الى شيء آخر أعمق. ذلك انه يصبح بكل ما تحتويه من ابعاد رمزية وتاريخية وروحية، خامة ومادة فنية متحولة ومتداخلة مع ذات الفنان، وهو ما يفضي الى العمل الفني الذي يصبح مستقلا بذاته ومنتجا للمعنى. بل ان هذا الأخير، يصبح متجاوزا لحدود صانعه أيضا، فهو ليس مرآة عاكسة له. ان العمل الفني في هذا المعنى، يصبح نتيجة لجدلية بين ذاتية الفنان وموضوعية الأشياء المادية ورمزيتها أيضا التي تساهم في بنائه.
لذلك فان هذا الشريط هو اخراج جديد للواقع ومسرحة لهذا المكان. انه ليس الواقع ذاته. انه تحيين له في الحاضر وتضخيم له، تخيل وتمثل له. وما نتخيله هو منا ونابع من عمقنا ومن روحانياتنا ومن وعينا ولا وعينا. لذلك يصبح مواصلة لوجودنا رغما عنا. انه الفضاء الجديد المختلف. انه فضاء العمل الفني.
من هنا نفهم كيف تتجدد الذاكرة في عملية الابداع. فما نستعيده منها ليس مجرد معطى موضوعي ومرئي، بل ما خفي عن هذا المرئي وفاق موضعيته. انه الحاضر والغائب على حد سواء. وما ارتبط بالوعي وباللاوعي ايضا. المنسي والمتذكر، الظاهر والمتخيل. ان تجدد الذاكرة يكمن فيما تفصح عنه كل هذه العناصر المتشابكة والتي تعتبر عنوانا لبشريتنا ولوجودنا. وقد نكون طوباويين في كل هذا، الا ان الطوباوية ضرورية للمعرفة وللفن وهي تمنحنا المعنى
من المحلي الى الكوني.
وان البحث في اركيولوجية المكان الذاكرة الذي ننتمي اليه كفرد ومجموعة، هو الغوص في خصوصيته والاغراق في فهم بعده الانساني وهو ما يفسح المجال لتشريك الآخر في عملية تقبل هذا العمل الفني بطريقة أكثر تشاركية وأكثر تفاعلية. فلقد وجدت هذه التجربة، امتدادا ملحوظا عند الآخرين من الجمهور الذين قدموا افواجا للاطلاع على التجربة ولاكتشاف هذا البرج. فالروابط الثقافية والانتربولوجية والرمزية مع هذا المكان الذاكرة لهؤلاء هي نفسها روابطي.
وان كانت الذاكرة إنسانية لا محالة، فان الانجاز الفني تأكيد على هذه الإنسانية وتفنيد لها. وما يربط الاثنين هو الوجود الإنساني المتواصل والمتجدد والذي لا يعرف استقرارا وتوقفا ولا سكينة. ولعل هذا ما يمكن ان يضمن العلاقة المتجددة بين محليتنا وكونيتنا. ان الفن مساحة انسانية للتفكير والتي لا تعرف الحدود الجغرافية.. فاشكالية اركيولوجيا المكان الذاكرة، تحيلنا الى الايتيقي وبالتالي الى المحلي والكوني على حد سواء. فالاعتراف بخصوصية ذاكرتنا، تثمين للذات البشرية عموما في أعمق قيمها.. والتدخل الفني في هذا الإطار يساهم في ترسيخ طابعه الإنساني والكوني هذا ويمكنه من شرعيته كثروة بشرية.
ربط العلاقة بين مكان الذاكرة بالفن والابداع، هو اعتراف ضمني بأهمية تفرد كل مكان مهما اختلفت جغرافيته، وهو ايضا اعتراف ضمني باختلاف الآخر عنا.. أي مستقبل للبشرية ان اضاعت ذاكرة ورموز امكنتها؟
نثير هذا السؤال في زمن الجيوسياسي وتداعياته الكونية، وفي زمن وصاية المال على الفن وفي زمن الموضة وأزمة المصطلح والمعنى والانتماء، أي في زمن العولمة وتأحيد الثقافات. حيث يرى "ليفي ستراس" منذ 1980 "أن الإنسانية تستقر اليوم في ثقافة أحادية، وهي تتهيأ لإنتاج حضارة جماعية مثل البنجر. فالأكلة اليومية ستقتصر على هذا الطبق".
الخاتمة
تطرح هذه الندوة سؤال الحداثة والمعاصرة واشكالية تواصلهما. فهل تجربتي المقدمة هذه تنتمي الى الحداثة او المعاصرة او الى ما بعد حداثة؟ سوف لن أقدم محاضرة ثانية للبحث في هذه المصطلحات. مصطلحات تصبح لا معنى لها للفنان وهو في غمار الفعل الفني. واجابة على هذا السؤال، اكتفي بالقول، أنني لم أكن فنانا آخر امام هذا المكان الذاكرة وامام ما يطرحه من قضايا. بل كنت، كما كنت وكما سأكون. وفي كينونة الفنان تواصل وتحولات دائمة. وان غاب هذا التواصل وغابت هذه التحولات في مسيرة الفنان، فقد نخسر رهان الفن ذاته. في جرابي وانا انجز هذا العمل، تجربتي التشكيلية كرسام وكفوتوغرافي معاصر ما دمت اعمل في الزمن الحاضر. ولعل الفيديو فرض نفسه. ذلك للحاجة الماسة لهذه الصورة المتنقلة في الفضاء والزمان، المبدعة والموثقة للزمن الحي والزائل. أليست الفنون التشكيلية هي القادرة على التأقلم وإيجاد الحلول وفق المتغيرات سواء كانت مكانا او خامة او أداة او غير ذلك؟ اليس هذا ما يمنحها صفة المعاصرة ايضا، بعيدا عن غوغائيات المصطلحات التي افضت في عصرنا اليوم الى فقدان معناها؟
سامي بن عامر
في 24 سبتمبر 2016
[1] Claude louis -combet. Origine et fin du paysage. In la mémoire n’a pas de lieu de maryvonne saison dans espaces et mémoire p.60 : « la mémoires s’enracine en ce terreau d’existence dans lequel se confondent l’imaginaire et le sensible » c’est « dans cet enveloppement charnel, sensoriel, qui tenait l’enfant dans son enfance et marquait son appartenance au monde » que se joue son « empaysement » et que « s’origine l’esthétique »
[2] François Soulages.la nécessité de l’esthétique ou la photographie des espaces et des mémoires. Dans espace et mémoire atep. Maghreb diffusion. Tunis 2005. P. 314
« L’art n’est pas qu’un additif à ces réalités complexes : il renouvelle ces réalités et ces réalités le renouvellent : une dialectique ascendante est alors mise en œuvre entre ces deux pôles qui se réunissent, au point que l’art est habité par le problème des espaces remplis de mémoire et des mémoires lourdes d’espaces ».