-
القائمة
عندما تستمع إلى الفنان سامي بن عامر يتحدث بشوق المتصوفة عن بحثه عن الأرض التي أرادها أن تتجلى بتوهج، يخيل إليك أنها احتضنته ودارت به دورانا تصاعديا نحو مطلق وجد نفسه فيه صحبة ملائكة جعلها الخالق مبدأ خلقه. وقديما قال أخوان الصفاء "في طبائع العقلاء اشتياق إلى أحوال الملائكة والتشبه بهم". اشتاق سامي إلى مقام هذه الملائكة المسكونة بالروح الإلاهي والتي رغم أنها كذلك فقد رفضت حمل أمانة الخلق فحمل وزرها الإنسان محاكيا للقوة الطبيعية تشبها بها وتشبها بخالقها.
لقد أراد سامي أن يسمُوَ ويسمُو بهذه الأرض، اقرب الكائنات إلى "الطبيعة" التي طبعتها، شأنه شأن كل الفنانين الباحثين عن المعرفة عبر الإبداع والإبداء. فكان مُبدءا ومبدعا لعالم أو لنقل لعوالم صغيرة، فضاءاتٌ تحركت والتمعت بفضل الفكر/ العقل المخترق لها والمنغمس فيها، هذا الفكر الذي حمل الشكل وهذا الشكل الذي تخصب بالمادة/ اللون، فكان نسيجا مشبوكا أوقع المادة الممتدة في شراكه. تشكلت المادة لتكون رامزة دالة لا فقط للأرض وما عليها من موجودات عضوية ولمورفولوجيتها، بل أيضا لرمزيتها الشكلية التي تفعلت تشكيليا وتوهجت بتوهج نحو أبصارنا لتلتذ بها وتطرب. ونسينا توهج الأرض وتجليها ودخلنا هذا الكون الصغير الذي جعله الفنان أكوانا تتعدد فيه العناصر وتتنوع كما تنوعت كائنات الأرض وتعددت...أكوان لا ندري عند الحديث عنها هل نبدأ بإعلان أشكالها الأساسية مربعة ومستطيلة ودائرية أم نسعى إلى تجاوز هذه الأشكال لندخل عبرها حديثا إلى لعب الأنسجة التي تدعونا بإلحاح إلى عدم الاكتفاء بتأملها بل إلى لمسها وتحسسها لإدراك حسيتها، أم إننا نتجاوز الأنسجة لندرك تآلفها وتآلف هيئتها في مدارها حول مراكز اهتمام تارة أو سيرها وفق نسق مفردي تارة أخرى.. هيئات أنسجة تنتظم ضمن سنفونية، تحرك مسارات وقعها نغمات موسيقية، مسارات تتقاطع أفقيا وعموديا في حركة صاعدة/ نازلة أو هي دائرة دوارة تسعى إلى معانقة أهلة.
لقد أراد سامي لأشكاله الناتئة/ الغائرة بلطف أن تمثل وحدات مفردية في هيئات كلية وأراد لكل مفردة أن تختص بما يميزها في هيئات فردية وكأنه أراد أن يجد تناغما بين الذاتي والموضوعي في إطار هذه المفردات التي كونت بذاتها شبكات عوض أن تنتظم فيها. وكان توليده لهذه الشبكات منتجا لنسيج يشبه في نسجه نسج الخطاط لحروفه على جدار، بحفره تارة ونقشه تارة أخرى فكان "رقشا".
كان رقشا في أرض غير الأرض التي نعرف، أرض يتأرجح فهمنا لها ويترجرج، أرض تخيلها سامي مستخلصا لخواصها ككيمياء عضوية تتظهر في فيزياء بصرية. كيمياء وفيزياء لا تنتهي إلي العلوم البيولوجية بل إلى أركيولوجياء ذاكرتية وهندسة فكرية صوفية اخترقها برسمه ورشمه ألوانا نورانية وأنوارا لونية. ألوان/ أنوار تشعرنا بالدفء تارة وبالحرارة تارة أخرى. ينتابنا هذا الشعور إثر تجوالنا صحبة سامي وسيرنا معه في ثنايا هذه الألوان/ الأنوار... ثنايا تناسب في مسار الطيف القزحي إذ ننتقل معه من الأزرق إلى الزرقة ونتحول في بهاء نحو الأخضر المخضر حتى الأصفر المحمر ومن ثمة نلج في رحم بركان ناري سرعان ما تخمد حممه ليصبح رمادا يتلألأ بياضا/ سوادا.
ولا نملك بعد مشاهدتنا لأكوان سامي الأرضية إلا أن نتساءل التساؤل الجميل: من تجلى في هذه الأكوان هل هي الأرض بما هي أرض وبما يحمله لفضها واقعا كان أو مجازا، أم أن سامي هو الذي سما وتسمى مختلفا ليكون سمة تتجلى عبر خروج ما في قوته إلى الفعل، بتخيله هذه الأرض مغايرة ومفارقة لوجوده، ناشدا أنشودة منشودها.
الحبيب بيدة
كاتلوق معرض جلال الارض 2007 رواق كاليستاي
(جريدة الشروق في 13 أكتوبر و 20 اكتوبر 2022)
المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر بتونس …تسلسل الأزمات.
لا يزال يمثل المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر موضوع جدل يعكس مدى الأزمة التي انحبس فيها منذ انطلاقته الفعلية في 21 مارس 2018 ومنذ الإعلان عن تأسيسه بمقتضى الامر الحكومي عدد 381 لسنة 2018 المؤرخ في 23 أفريل 2018، ليصبح مؤسسة عمومية لا تكتسي صبغة إدارية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي.
ولعل الأزمة تسبق هذا التاريخ، فلجنة شراءات الدولة التي تم تكوينها منذ السبعينات والتي تهدف إلى تكوين رصيد المتحف للفنون التشكيلية لم تُفلح خلال عقود في تحقيق هذا الهدف. فآلاف الاعمال الفنية التي تم اقتناؤها قد أُتلِف كثيرها لسوء التصرف فيها وقلة الاعتناء بصيانتها وتوثيقها. والحال أنها جزء من التراث التونسي الذي لا يُقَدَّر بمال.
ومن علامات هذه الأزمة التي عرفها المتحف مند انطلاقته في مدينة الثقافة، تعدد إداراته في ضرف وجيز من الزمن. فقد انتهت الادارة الاولى المؤسِّسة له باستقالة مديرها العام بعد سنة من الشغل. اما الادارة الثانية فقد تم إقالة مديرتها العامة بعد أربع سنوات من تعيينها، إذ لم تتمكن خلال هذه المدة من تنظيم المعرض الافتتاحي المرتقب، وصولا إلى الإدارة الثالثة التي تم تعيين مديرها العام منذ أشهر قليلة ليُكلَّف مباشرة بتنظيم معرض بمناسبة ملتقى "تيكاد". معرض غطى الفترة الزمنية من 1850 الى 2020 وقُدِّم على أنه المعرض الأكبر في تاريخ الفنون التشكيلية.
وما زاد في الطين بِلّة غياب التنسيق بين إدارة الفنون التشكيلية وإدارة المتحف الذي عطّل تحويل الاعمال من مخازن الرصيد الوطني بقصر السعيد الى مخازن المتحف بمدينة الثقافة.
ولعل هذا المعرض الأخير زاد في هذه الأزمة المتعلقة بالمتحف، إذ افرز عديد المواقف المتضاربة:
رأى البعض أنه ناجح واعتبروه استجابة لتحقيق الافتتاح الرسمي المرتقب للمتحف رغم أن منظميه لم ينصّوا على صفته هذه.
واستغرب وزير الشؤون الثقافية الأسبق في تدوينة له لما يروجه البعض عن موضوع افتتاح المتحف والحال أن هذا الافتتاح قد تم منذ 2018.
وعلّق المدير العام الأسبق الذي تابع تأسيس المتحف سنة 2018، أن المعرض الافتتاحي كان مشروعا اشتغلت عليه ادارته صحبة مجموعة من الفنانين، الا أنه لم يتحقق بعد. وما أنجز هو المعرض ما قبل الافتتاحي "نحتي ومنحوت" الذي تم تنظيمه في 21 مارس 2018 بمناسبة افتتاح مدينة الثقافة. وذكّر بان المعرض الافتتاحي حدث كبير ذا ابعاد وطنية وعربية وعالمية لا بد من الوقوف عندها وليس هكذا معرض مناسبتي.
وعبر البعض عن استغرابهم لهذا المعرض الذي بات غامضا إذ لم يفصح بصفة جلية عن طبيعته وتساءلوا إن كان معرضا عاديا أم افتتاحا رسميا للمتحف؟
وأجهر آخرون عن ضعفه، اذ بات معرضا دون مفهوم يحدّده ويربط بين أعماله، وعبروا عن ضعف النص المقدم له الذي اتى تحت عنوان مستفز: "هذا هو المعرض".
استغلت بعض الآراء الأخرى المناسبة لتؤكد على أن هذا المتحف هو في النهاية ليس متحفا. فهو كما ورد في المثال المعماري لمدينة الثقافة يتمثل فقط إلا في قاعات عروض ثلاث غير كافية لتغطية أنشطة المتحف، تجاورها خمسة مخازن مخصصة لحفظ الرصيد الوطني للفنون التشكيلية ليست تابعة له. ولعل مثل هذا الطرح يُشرّع ما دأب عليه المتحف بداية من سبتمبر 2018 من تقديم لمعارض مناسبتية آخرها المعرض الذي نُظّم بمناسبة تظاهرة "تيكاد".
ويرى آخرون في هذا السياق أن المتحف لا يمتلك قانونيا بنايته التي هي جزء لا يتجزأ من مدينة الثقافة. مما يجعله عديم الاستقلالية بل مشروعا هلاميا. وإن قبلنا بهذه الفرضية، فيعني ذلك أن كل المؤسسات الثقافية في المدينة الثقافية هي أيضا هلامية: الاوبرا ومركز العرائس والمعهد الوطني للترجمة وغيرها. والمعلوم ان الامر الحكومي الذي سبق ذكره والذي يضبط مشمولات المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر لم ينص على تحديد موقعه الجغرافي واكتفى فقط بالإشارة الى مدينة تونس كعنوان له. ونفس الشيء بالنسبة لمسرح الاوبيرا ومركز العرائس.
إن تعدد القراءات واختلاف الآراء حول المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر، يؤكد على هذه الازمة التي يعيشها. ونقدم بطريقة موجزة بعض المقترحات التي نراها مناسبة لتخطي هذه الازمة:
· لضمان حسن سير المتحف وجب تعيين مختصين في المجال على رأسه، تكون لهم خبرة في التسيير الإداري ومعرفة بتاريخ الفن واشكالياته.
· لتوفير مساحات أكبر للمتحف، نقترح الحاق المخازن رسميا بهذه المؤسسة على ان نُبقي على المخزنين الكبيرين القادرين على استقبال 5000 عمل فني - بمعدل متر مربع للعمل الواحد - لوظيفة خزنها وتوظيف المخازن الثلاث المتبقية للمعارض والورشات. وفي المقابل الشروع في بناء مقر مناسب في ضواحي العاصمة يستقبل الرصيد الوطني للفنون التشكيلية المتزايد من سنة الى أخرى.
· اما الإشكاليات العقارية لمباني المؤسسات المتواجدة في مدينة الثقافة ومن بينها المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر، فإننا لا نرى أن هذه الوضعية تمثل عائقا حتميا، مادامت هذه المباني تعود إلى الدولة وهي قادرة على تفويتها لهذه المؤسسات لتسوية وضعياتها العقارية.
· وفيما يتعلق بعلاقة المتحف بالرصيد الوطني للفنون التشكيلية التي أحدث عديد المشاكل بين إدارة المتحف وإدارة قسم الفنون التشكيلية، فهي تُنظم وفق الباب الخامس لقانونه الاساسي الذي ينص عليه الامر عدد 381 وتحديدا في الفصل 27، حيث نفهم ان مجموعات المتحف تتكون مما تسنده الدولة له من اعمال فنية تتصرف فيها والتي ترى إدارة المتحف أنها ضرورية لأداء مهامه، حيث يتم ضبطها بمقتضى اتفاقية تبرم للغرض بين المتحف والوزارة المكلفة بأملاك الدولة والشؤون العقارية. كما تتكون أيضا من الهبات ومقتنيات المتحف وغيرها من القنوات الأخرى.
ما نأمله هو تجاوز هذا التذبذب في الرؤيا الذي تراكم خلال الخمس سنوات الأخيرة حول ماهية المدينة الثقافية من جهة والمؤسسات التي تستقبلها من جهة أخرى، وتصور نظام قانوني واضح يضمن الاستقلالية العقارية والادارية للمؤسسات المتواجدة في مدينة الثقافة من جهة، ومن جهة أخرى وحدة هذه الأخيرة التي من شانها ان تضمن لزائريها تنوع المنتوج الثقافي. وهي مسالة في غاية الإيجابية. والخطر هو أنه لا يزال البعض يسعى أن يستخدم مدينة الثقافة كوحدة غير مجزئة، لتصبح المؤسسات التي تعمل ضمنها فرعية وليست إدارات مستقلة، وهذا ما سيضعف حضورها على الساحة الوطنية والدولية.
صحيح أن ما كنا نتمناه هو مؤسسة متحفية تسع لقاعات أكثر للعرض ولخزن الاعمال... الا ان التفريط فيما هو موجود ومُتاح وقابل للإصلاح قد يجرنا الى نقطة الصفر. علما وان الأرض المجاورة جنوبا لمدينة الثقافة والتي كان من المفروض ان تستقبل متحف الحضارات، قد تكون أُلحقت برآسة الحكومة. وهو خبر شاع في بداية عام 2018. ونتمنى ان لا يكون صحيحا.
فتحت الوزارة أخيرا تقديم الترشحات لوظيفة الإدارة العامة للمتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر وحددت آخر اجل لها في 9 سبتمبر 2022. ما ينتظره المدير العام القادم للمتحف، ليس هينا. نأمل ان يكون كفاءة من أهل الاختصاص. كل التوفيق له.
سامي بن عامر
جريدة الشروق 09 مارس 2023
رواد من خارج جماعة مدرسة تونس
علي بن سالم
1910- 2001
يعتبر علي بن سالم من اهم الفنانين الرواد في تونس. وكان من التلاميذ الاوائل الذين درسوا بمدرسة الفنون الجميلة بتونس وتتلمذوا على يدي فارجو Vergeaud الذي تقلّد ادارة هذه المدرسة سنة 1930. نظّم أول معرض له في سنة 1934 بتونس العاصمة. وله عديد النصوص النقدية والأدبية. اهتم بالحرف التقليدية وتحصل وهو في السادس والعشرين من عمره على جائزة الرسم من الحكومة التونسية ومن حكومة افريقيا الشمالية التي اعتبرته رسّاما متخصصا في المنمنمات. وقد مكّنه هذا من السّفر الى فرنسا ثم السويد.
في عام 1944 وبعد عودته الاولى الى تونس، أسّس مدرسة الفنون الجميلة بصفاقس، وكان مديرًا لها، غير انه تم قصفها اثناء الحرب العالمية الثانية. وعاد الى السويد من جديد، حيث بقي فيها اكثر من عشرين سنة. وكان يلتقي في بيته المتواجد في العاصمة السويدية الفنانون والسياسيون التونسيون. وفي عام 1970 قرّر العودة النهائية الى ارض الوطن ليعيش في مدينة الحمامات.
هو رسام اولا، إلا أنه أنجز عديد الاعمال في مجال الفسيفساء والسجاد والطلاء على البلور.
نشاهد في عمله "الحنّاء"، اكورال على ورق وهو من مقتنيات الدولة التونسية، مجموعة من الشخوص النسائية المسطحة اشكالها. الأولى يرسمها في متوسط النصف السفلي للوحة. اما بقية الشخوص فقد وُضعت في اتجاه مائل في نصفها العلوي، بدءا من الشمال وصعودا الى يمين وأعلى اللوحة في نسق أحدث تدرّجا من الكبير الى الصغير. ونشاهد في خلفية اللوحة أشكالا حيوانية، غزالا وحماما وأشكالا نباتية خيالية. وعلى كامل مساحات اللوحة يوزع أشكاله الزهرية المتساوية أحجامها بأسلوب جدّ مختزل ممّا يمكنه من التاكيد على الطابع التسطيحي للوحة.
لقد استلهم علي بن سالم اسلوبه من المنمنمات الفارسية. وهو ما نتبينه في هذه الشخوص الأنثوية المرسومة بكل حذق واتقان وذات الخطوط النقية والوجوه البيضاوية الشكل والعيون المُتمدّدة التي تتميز بنظراتها البعيدة. يُبرز شعرها ونعومة يديها وصدورها كما يُؤكد على ثراء ثيابها ليحيلنا الى فضاء حلمي وخيالي. كما يستلهم طابعه التسطيحي لاشكاله المستقلة عن التمثيل الكلاسيكي الثلاثي الابعاد، من تجارب ماتيس التي أنجزها في النصف الاول من القرن العشرين.
تتميز لوحاته عموما بعدم واقعية ألوانها وبأشكالها الرمزية ذات الخطوط المتعرجة والمتواصلة اللينة والمتكررة، طيور واشجار وازهار وحيوانات وشخوص والكل في فضاء يغمره الضوء. كما تتميز بأبعادها الزمنية اللامحدودة. انه عالم خيالي ولا نهائي وسرمدي، مما يحيلنا إلى استقلالية لوحته عن المرئي.
فضاءات علي بن سالم ساحرية بخطوطها المتعرجة وبأشكالها التي تحملنا الى عوالم لا نعرفها.
منذ وفاته في عام 2001 وتكريما له ، تم تنظيم عديد المعارض والمهرجانات ومختلف الفعاليات الثقافية لدراسة اثره الفني. وفي عام 2010 ، أصدر البريد التونسي طابعًا بريديًا يحمل صورته. وكُتبت عنه عديد المؤلفات من بينها الكتاب الصادر عام 2011 عن المجمع التونسي للعلوم والأداب والفنون "بيت الحكمة" بمناسبة مرور الذكرى العاشرة لوفاته بعنوان""Aly Ben Salem, émotion de l'œil , passion de vivre". "علي بن سالم ، عاطفة العين ، شغف بالعيش " جمع نصوصا أعدّت في اطار ندوة علمية نُظّمت في الغرض.
سامي بن عامر
جريدة الشروق 02 مارس 2023
رُوّاد من خارج جماعة مدرسة تونس
لم يكن كل الفنّانين التّونسيين من جيل الرواد منضوين إلى جماعة مدرسة تونس. ومن بين هؤلاء علي بن سالم (1910 ـ 2001) وحاتم المكي (1918ـ2003) وعمارة دبش (1918ـ1977) والهادي السّلمي (1934 -1995)... وهؤلاء هم من أهم الفنانين الروّاد الذين أَثْرَوا مسيرة الفنون التشكيلية. ولا يمكن فهم عدم انضوائهم الى هذه الجماعة بسبب خيارات اسطيتيقية فرضتها هذه الاخيرة، فقد سبق ان بينا ان اعضاء مدرسة تونس مثلهم مثل اعضاء مدرسة باريس الذين اقتادوا بهم، كانوا مختلفين فيما بينهم في توجهاتهم الفنية والاسطيتيقية. فلقد ضمت جماعة مدرسة تونس فنانين تشخيصيين وتجريديين. وما كان يربط بين افرادها، هي علاقات الصداقة والمودة التي سمحت لهم الانتظام داخل هيكل ساعدهم على التعريف باعمالهم الفنية وعلى فتح آفاق رحبة لتسويقها. ولقد اكّد لي ذلك الفنان الزبير التركي في حوار صوتي مُسجّل أجريته معه في منزله سنة 2007 تم بثه في برنامج "حدث اللون قال" الذي كنت أعدّه في تلك الفترة في اذاعة تونس الثقافية.
ليس من الغريب إذا انطلاقا من هذه الخيارات ان تصبح جماعة مدرسة تونس مقتصرة على فنانين دون غيرهم.
ووفق شهادات من عايشوا هذه المرحلة، كثيرا ما ينشب جدل بين بعض رواد جماعة مدرسة تونس وبعض من هؤلاء الفنانين الرواد الذين امتنعوا عن الالتحاق بهم او لم تتم دعوتهم للانضمام اليهم.
وجب ان نشير الى أن انطلاقة علي بن سالم وحاتم المكي والهادي السّلمي كانت جد موفّقة، فثلاثتهم سافروا الى الغرب واقاموا فيه ونظّموا معارض هناك وتحصّلوا على جوائز مما فتح لهم باب الشهرة خارج الوطن. كان حاتم المكي قريبًا من التّجارب الفنّية العالمية المتجدِّدة في عصره، حيث استفاد من سفره إلى أوروبا فقدّم تجربة فنية متنوعة وثريّة. وكان متحرِّرًا من هاجس الهُوية الوطنية التي التزم بها عديد الرسّامين التونسيين من أعضاء مدرسة تونس.
واشتغل علي بن سالم على عوالم حلُمية خيالية باعتماد تكوينات يوزِّع فيها أشكاله بطريقة متساوية على مساحة اللّوحة. نشاهد فيها أشكالًا حيوانية، غزالًا وحمامًا وأشكالًا نباتية خيالية وشخوصا.
اما الهادي السّلمي فقد برز في مجال النّحت من خلال تجاربه الرائدة حيث كان أول نحّات تونسي. وقد استطاع أن يفرض تجربته الفنية في مجتمع لم يكن للنحت مكان فيه.
وان استطاع حاتم المكي وعلي بن سالم والهادي السّلمي فَرْض حضورهم على الساحة الفنية التونسية والدولية، فان عمارة دبش رغم كفاءته الفنية بقي الحاضر الغائب. فلقد كانت مسيرته غامضة وملتبسة. اذ ليس لنا دراية واسعة الى حد الآن بتفاصيل مسيرته الفنية، بقطع النظر عن بعضها، منها اقامته في فرنسا في مرحلة اولى من حياته ومعرضه الاستعادي الذي نظمه في شهر فيفري 1967 في الرواق البلدي للفنون بالعاصمة والذي ضم اكثر من مائتي عمل وعودته بعد هذا المعرض الى فرنسا ليستقر فيها بعد ان وجد صعوبات جمّة في التأّقلم مع الواقع الفني في تونس، الذي لم يعره اهتماما يذكر. يتبع...
جريدة الشروق 09 فيفري 2023
من جماعة مدرسة تونس
عبد العزيز القرجي
1928-2008
ولد عبد العزيز القرجي في تونس عام 1928 في عائلة ترتبط جذورها بجورجيا كانت مختصة بصناعة وتجارة الشاشية.
دَرَس الرسم بمدرسة الفنون الجميلة بتونس على يدي فارجو الذي كان مديرا على راس هذه المؤسسة، ثم سافر الى باريس ليدرس في ورشة بليسون. وعند عودته الى تونس تمتّنت علاقاته مع الفنانين التشكيلين الاجانب الذين كانوا مقيمين بها، وكسب صداقات مجموعة من الفنانين التونسيين الذين اصبح عددهم يتنامى من عشرية الى اخرى. واهم علاقة كوّنها، تلك التي جمعته مع بيار بوشار مؤسس مدرسة تونس التي انظمّ اليها ليصبح عضوا فيها ثم رئيسا لها عام 1969 الى ان وافاه الأجل المحتوم.
وفي عام 1973 أسّس رواقَه الخاص في منطقة البلفيدير بتونس العاصمة، ثم رواق عمار فرحات في عام 1988 بسيدي بوسعيد. وآخر معرض له في حياته كان خلال 2007 بهذا الرواق، ضم مجموعة من الأعمال الفنية المتنوعة من رسومات وليتوغرافيا ومنحوتات.
يلجا القرجي إلى أسلوبٍ يعتمد التنقية بالاعتماد على تسطيح اللون والخط البارز والاشكال الهندسية والتخلي عن التفاصيل... ممّا يفضي بنا إلى شخصيات خيالية و حلمية.
ففي لوحته "القلب في الكف" مثلا (1990 ، غواش على ورق، 64 على 50 سم) نشاهد مجموعةِ شخوص وأشكالٍ هندسية في شكل مستطيلات. كلُّ شُخوص واشكال اللوحة رُسمت بطريقة مُختَزَلة ومفكّكة، لتصبح في شكل مساحات متجاورة وشبه هندسية بعيدة عن الواقع المرئي وذات ألوان متباينة ورمادية. فاليد اليمنى التي يرفعها الرجل على يمين اللوحة تبدو اصطناعية مثلها مثل اليد اليسرى. اما انفه فهو مركب. اما المراة المجاورة فهي فاقدة للتناسق الطبيعي. فوجهها مؤلف وفمها مائل. وتتداخل الخطوط التي يعتمدها في رسم الرجل والحصان في اسفل اللوحة، لتصبح مصدر غموض في ادراكنا لوضعيتهما.
كل ما يرسمه القرجي في هذه اللوحة في اتصال بالواقع التونسي من خلال ما يضيفه من جزئيات واشارات. مثل الشاشية الموضوعة على رأس الرَّجل في اعلى اللوحة، أو اللباس التقليدي التونسي التي ترتديها المراة. ويذكراننا شكلُ القبة وقطع الجليز في اسفل الوحة بالمعمار التقليدي التونسي.
لقد استلهم عبد العزيز القرجي جل مواضيعه من محيطه التراثي. فما يميز مسيرته الفنية عموما، سعيُه إلى ربط العلاقة بين الممارسة الفنية وهذا التراث المحلي التونسي، معتبرا ان المواضيع التي يرسمها ليست في حد ذاتها هدفا، بل الهدف الاساسي هو في إعادة صياغتها الفنية بطريقة حرة وصادقة.
ولم يكتفي عبد العزيز القرجي بممارسة فن الرسم فحسب، بل كانت له تجارب هامة في فن الخزف. وفي الفترة الاخيرة من عمره قام بملاءمة رسوماته مع مادتي الصوف والحديد. فجعل من رسوماته الخطية والتصويرية منسوجات صوفية ومنحوتات حديدية بالتعاون مع الحرفيين المختصين.
رحل عبد العزيز القرجي يوم الخميس 10 جانفي 2008 بعد عمر يتراوح 80 سنة.
نُظّم له في 7 ديسمبر 2017 في قصر خير الدين في مدينة تونس العتيقة بالتعاون مع "رواق القرجي" ومؤسسة "تالان،" معرض استيعادي كبير يحمل عنوان "القرجي بصغة الجمع".
سامي بن عامر
جريدة الشروق 03 نوفمبر 2022
رحيل الفنان بيار سولاج (1919- 2022)
"إني أبحث عمّا أجده وأنا أرسم"
خبر حزين انتشر يوم الأربعاء 25 أكتوبر 2022، تفاعل معه الفنانون في مختلف البلدان، معلنا عن وفاة الفنان الفرنسي الكبير بيار سولاج في مدينة نيم الفرنسية في سن تناهز 102 سنة. تجربة ثرية وطويلة تجعل من الفنان الفقيد، شاهدا على مسيرة الفن الحديث في القرن العشرين وفاعلا فيها. وقد تمّ تكريمه أمس الأربعاء 2 نوفمبر، في البهو المربع بمتحف اللوفر بحضور الجمهور وبإشراف رئيس الجمهورية الفرنسية ايمانويال ماكرون.
ولد بيار سولاج سنة 1919. وهو رسّام وحفار فرنسي ينتمي منذ سنة 1940 إلى الفن الحركاتي Art gestuel (أو "الطاشية" Tachisme) الذي يدخل ضمن ما سُمّي بالفن اللاشكلي Art informel . وقد وَجَدَ في الأسود مجالا قادرا على أن يُحيي الألوان. أعماله تحمل كلها عنوان: رسم Peinture وهي متنوعة بتنوع تاريخها.
تُحيلنا لوحته بعنوان "رسم 1956" (194 – 129.9 سم، متحف غوقنهام - نيويورك) إلى مجموعة من اللّمسات الكبيرة السّوداء التي يمرّرها بكل عفوية وحرّية باستعمال فرشاة كبيرة. ونتبيّن من خلال بعض هذه اللّمسات الشّفافة، خلفية بُنِّيَّة داكنة. يرسُم سولاج هذه اللمسات في وضعيات عمودية، إلا أنه يقدّمها ضمن طبقاتٍ ثلاثٍ أفقية ومختلفة الارتفاع، يفصل بينها بخطوط أفقية سميكة، محدثا بذلك تباينا بين الاتجاهين الأفقي والعمودي، يساهم في التّعبير عن حركية اللوحة.
يوزّع سولاج لمساته هذه المتجاورة والمتداخلة والمتناضدة أحيانا على أرضية فاتحة رمادية، فيحدِث ذبذبات بصرية وإيقاعات، يؤسس لها تِكرارُ هذه اللمسات وتباينُ الفاتح والداكن ونسيجُ اللوحة الذي يستمدُّه من أثر فرشاته العملاقة على مساحة الحامل.
هو يسعى إلى خلق علامات سحرية تتجاوز ترجمة الواقع، مُعتمدا في ذلك الأسود الذي عبّر عن انجذابه له منذ طفولته والذي يُصبح مُتغيّرا في أعماله ومُعبِّرا عن المطلق. كتب: "أعني بما بعد الأسود، الأسود الذي عندما يتوقّف عن الوجود ويصبح باثا للوضوح وللضوء السّري."
وإن ما يريد إحداثه من خلال حركاته التلقائية، هو التعبير عن الضّخم والشّاسع واللامتناهي، والتي بها يربط جسده وما يتضمنه من أبعاد روحية وشحنات تعبيرية داخلية باللوحة. ولعلّ هذا يمثل أساس الفن الحركاتي، حيث تصبح مساحة اللوحة انعكاسا ومواصلة لجسد الفنان ولتعابيره النابعة من ذاته الباطنية. إن سولاج، ينطلق من دافعه الإبداعي ومن انفعالاته وشاعريته ليتحول الكل إلى العمل الفني عن طريق الحركة. وهو يؤكد لنا أن الرّسم يسبق التّفكير. وهو ما يحيلنا الى أسبقية الفعل إزاء الفكرة. الفعل الذي يصبح مصدر المعنى عندما يرتبط في علاقة جدلية وتلقائية بالخامة والأداة والحامل.
ولقد سعى سولاج إلى تفعيل هذه القناعات متجاوزا بذلك فكرة كلاسيكية تتمثل في تصوُّر العمل الفني قبل إنجازه. وقد عبّر عن هذه الفكرة الرسام الكلاسيكي الجديد دومينين آنجر (1780-1867) في مقولته:"يجب أن تكون لديك اللوحة في الرأس قبل إنجازها". يفتح سولاج لتجربته باب المغامرة لتضفي على أعماله الفنية طابعا لا متوقعا وخصوصيا. يقول: "إني أبحث عمّا أجده وأنا أرسم". مقولة تذكرنا بالجملة الشهيرة لبابلو بيكاسو: "إني لا أبحث بل أجد." وكل من هذين المقولتين تختزلان أهم المبادئ التي طبعت الفن الحديث خلال القرن العشرين وإلى حدِّ اليوم. إن كان الفن الكلاسيكي والكلاسيكي الجديد يمثلان فن المتوقع، فإن الفن الحديث اختار أن يكون فن اللامتوقع، حيث تصبح الصّدفة مصدر إلهام.
سامي بن عامر
جريدة الشروق 22 ديسمبر 2022
12 جانفي 2023
المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس...تاريخه
مرحلة تونس المستعمَرة
يحملنا الاطلاع على تاريخ المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس (المعهد الام) إلى بدايات انطلاقة الفنون الجميلة في تونس التي تعود إلى آخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وإن دراسة تاريخ هذه المؤسسة التعليمية، تُمكِّننا من تعرُّف مسيرة تدريس الفنون في تونس عبر مرحلتين اثنتين: الأولى: مرحلة تونس المستعمَرة، والثانية مرحلة تونس المستقلة. وسنتطرق في هذا المقال الى المرحلة الأولى.
عديدة هي النصوص القانونية التي هيأت المجال للاتفاق سنة 1922على بعث مركز لتدريس الفن.
وقد فَتَحَ مركز تدريس الفن أبوابه في 15 نوفمبر سنة 1923 بإدارة بيار بويار بممر بن عياد بمدينة تونس العاصمة، بعد إجراء أول مناظرة للترسيم بالدراسة، أفضى الى قبول سبعة تلاميذ. وكان يحيى التركي، التونسي الأول الذي التحق بـمركز تدريس الفن بداية من عام 1924 وتبعه عبد العزيز الرايس وبعدهما مجموعة هامة من التلاميذ التونسيين.
والجدير بالذكر أن فتح مركز تدريس الفن بتونس كان قد سبقه فتح مدرسة الفنون الجميلة بمصر عام 1908 من طرف الفرنسيين، ولقد كانت منطلقًا لبداية مسيرة الفنون التشكيلية الحديثة في مصر ثم في بقية العالم العربي.
وفي 12 جوان 1928 ، صدر مرسوم ورد عن المدير العام، يشرِّع لشهادة في ختم الدراسات يقدّمها مركز تدريس الفن. وتم التركيز في مرحلته الأولى على تدريس الرّسم والمعمار بالإضافة إلى دروس نظرية في تاريخ الفن.
وفي عام 1930 تم الاستغناء عن تدريس المعمار، للاكتفاء فقط بتدريس الرّسم والفنون التشكيلية عمومًا، وهو ما جعل تسمية المعهد تتحول إلى مدرسة الفنون الجميلة وذلك بمقتضى النص الرّسمي الصادر في 1 اكتوبر من سنة 1930.
تَسَلَّم أرماند فارجولد المشعل عن بيار بويار عام 1930
من التونسيين الأوائل الذين زاولوا تعلمهم في هذه المدرسة: علي بن سالم وعمرغرايري وجلال بن عبد الله وعبد العزيز القرجي وليلى المنشاري (1927ـ2020) التي كانت أول فتاة تونسية درست على يد فارجو بداية من 1944 -1945 وتحصلت على منحة لتواصل دراستها في باريس.
بعد وفاة أرماند فارجولد في 5 أكتوبر عام 1949 تقلّد بيار بارجول (1897ـ1990) إدارة المعهد وكان أيضًا رسامًا يحذق الرّسم الخطي. كان برنامج بارجول واضحًا ويتمثل في الانفتاح على الفنون التطبيقية مع الإقرار بأهمية الاختصاصات التقليدية المندرجة في الفنون الجميلة.
وأحكم بيار بارجول إدارة المدرسة، مما مكّنه من مواصلة إدارتها إلى عام 1966، أي إلى ما بعد الاستقلال بعشر سنوات إلى أن أحيل على التقاعد. وأثناء هذه الفترة التحق عديد الطلبة التونسيين بهذه المدرسة ليتكونوا فيها. وأولهم صفية فرحات (1924ـ2004). وسافر عديد التلاميذ المتخرجين في مدرسة الفنون الجميلة إلى فرنسا لمواصلة تعليمهم وجلّهم عادوا إليها ليدرسوا فيها.
في 16 أكتوبر 1953 وقبل الاستقلال بثلاثة أعوام، دُشِّنَ المقر الجديد للمدرسة بباب سيدي عبد السلام بنهج الجيش الوطني من قبل المقيم العام الفرنسي بيار فوزارد وممثل عن الباي، وهو المقر الحالي لها. ولقد كان هذا الفضاء الذي استقرت فيه المدرسة مركزًا لقوات جيش المستعمر لاستقبال الجرحى أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد عُهد للمعماري جاك مارماي (1906ـ1988) تصميم بنايته الجديدة.
مرحلة تونس المستقلة
في سنة 1966، انتقلت إدارة مدرسة الفنون الجميلة من بيار بارجول إلى صفية فرحات. لتصبح أول مديرة تونسية لهذه المؤسسة.
إن ما أنجزته صفيّة فرحات أثناء إدارتها، (1966- 1981) شكّل إلى حد اليوم التّوجّه العام لهذه المؤسّسة. ومن أبرز الإصلاحات الّتي ساهمت في إحداثها تأسيس شعبة جديدة مُسمّاة "ثقافة واتصال" (1969 – 1970) تُعنى بتكوين المُدرّسين المُوجّهين لتدريس التّربية التّشكيليّة في المعاهد الثّانويّة. وتمّ أيضًا تدعيم تكوين المصمّمين في مجالَي الصّناعة والحرف الفنّية من خلال التعاون الجاد مع ديوان الصناعات التقليدية وتدعيم تدريس المعمار أيضًا، الّذي كان يهدف إلى دفع مشروع البناء في تونس الفتية.. كما تواصل التّكوين المختصّ في الفنون التّشكيليّة، كالرّسم والنّحت والحفر وغير ذلك من الاختصاصات.
ساهمت مجموعة هامة من الفنّانين التّونسيّين في إثراء دينامية المعهد. لقد عادوا من باريس برُؤى فنّيّة معاصرة تطمح إلى إرساء فنّ تشكيليّ مُتجدّد. نذكر منهم محمود السهيلي (1931ـ2015) ورفيق الكامل (1944ـ2021) والحبيب شبيل (1937ـ2004) وعمر بن محمود (1938ـ2009)، ورضا بن عبد الله ومحمد بن مفتاح وعبد الحميد الحجام الخ...
لعلّ السّبعينيات كانت السّنوات الأكثر ثراء في مجال الإصلاحات المتعلّقة بتدريس الفنون التّشكيليّة. حيث تم إعادة هيكلة مدرسة الفنون الجميلة بحكم أمر عدد 192 في 23 أفريل 1973 تحت تسمية المعهد التكنولوجي للفن والمعمار والتّعمير الذي انفصل عن وزارة الثقافة والأخبار لينضوي تحت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.. أصبح المعهد منذ ذلك الحين منفتحًا حصرًا على حاملي شهادة الباكالوريا.
لقد كان أيضًا هاجس صفيّة فرحات التطلّع إلى تجارب البلدان المتقدّمة في مجال تدريس الفنّ والاستفادة منها. وأفضى ذلك، إلى فتح مجال البحث في إطار شهادة الدكتوراه تحت عنوان دكتوراه الجماليّة وعلوم الفن التي أرسيت بالتّعاون مع جامعة السوربون باريس 1. وسافرت مجموعة من الطلبة المتخرجين والمتميزين في المعهد للدراسة في هذه الجامعة الفرنسية.
شكل فتح مجال البحث اللّبنة الأولى من المتخرّجين الباحثين الّذين تعمّقوا في مجال الفنون التّشكيليّة مُمارسة وتنظيرا والحاصلين على شهادة الدكتوراه، وقد ساهموا بدورهم في مواصلة البناء من خلال تكوينهم لأجيال متلاحقة من المتخرجين الدكاترة.
إثر الإصلاح الّذي شَمل هذا المعهد سنة 1995، صدر قانون بمقتضاه تم حل المعهد التكنولوجي للفنون والهندسة المعمارية والتعمير وتقسيمه في غرة سبتمبر 1995 إلى مؤسستين اثنتين: المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية والتعمير بتونس التي تحولت إلى الضاحية الشمالية بتونس العاصمة، ومدرسة الفنون الجميلة التي احتفظت بنفس المكان بباب سيدي عبد السلام بتونس العاصمة.
في 2005 شرعت وزارة التعليم العالي في إعادة تهيئة المعهد وتوسيع الفضاءات مع إضافة قاعات تدريس وقاعات محاضرات وجناح خاص بالبحث العلمي.
وفضلا عن مهام التكوين التي يضطلع بها المعهد، فإن مهام البحث قد تطورت بصفة ملحوظة نتيجة لتواجد عدد هام من الأساتذة صنف «أ» (خمس أساتذة) ووحدة بحث تعمل منذ 2003، مما مكن المعهد خلال (2008 – 2009) من استضافة مدرسة الدكتوراه «فنون وثقافة» التي جمعت عددًا من مؤسسات الجامعية من تونس العاصمة.
ونحن نفتتح السنة الجديدة 2023، نكون قد بلغنا الموعد المرتقب لمئوية المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس. وهي مناسبة ستسمح مؤكدًا لتقييم مسيرته.
ماذا عن مئويته؟ (1923-2023)
بحلول هذه السنة الجديدة 2023، يكون المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس قد بلغ مائة سنة من عمره. وإن كان يهدف أساسًا في بدايته كما سبق أن بيّنا إلى إرساء تبعية ثقافية من شأنها مساعدة المستعمِر الفرنسي في التّحكم في المستعمَرة التونسية، إلا أنه قد أصبح المصدر لتكوين أجيال الفنانين التشكيليين والمعماريين والمصمّمين التونسيين الذين ساهموا بقسط كبير في بناء تونس المستقلة.
واعتبارا لعديد الأطراف التي ساهمت في بناء المعهد عبر التاريخ، يصبح الاحتفال بمئويته ليس شأنا يخص أسرة المعهد الحالية فقط، بل كل هذه المؤسسات المساهمة في هذا البناء. فالمعهد الوطني للمعمار والتعمير الذي انفصل عن هذا المعهد الام سنة 1995، ليستقر في مدينة سيدي بوسعيد، هو جزء كبير من ذاكرته. نفس الشيء بالنسبة للمدرسة العليا لعلوم وتكنولوجيات التصميم بالدندان الذي ولد من صلبه. ومن المؤكد ان كل المعاهد العليا التي تكوّنت خلال العشريات الثلاث الأخيرة قد تغذت من هذه المؤسسة من حيث اطاراتها التدريسية والإدارية.
وفضلا عن هذه المؤسسات التعليمية ذات العلاقة المباشرة بالمعهد، فان وزارات الإشراف التي عرفها المعهد العالي للفنون الجميلة خلال النصف الثاني من القرن العشرين متعددة وجميعها معنية ايضا بهذه المئوية. فعلاوة على وزارة التعليم العالي التي تمثل منذ 1973 سلطة الاشراف للمعهد، نذكر أيضا وزارتي التربية والثقافة اللتان سبق ان تم الحاق المعهد بهما في الستينات وبداية السبعينات. أمّا جامعة تونس فقد كانت ولا تزال الجامعة التي يعود المعهد لها بالنظر. ودورها في هذه المناسبة كبير. وللتاريخ أيضا، فان الديوان القومي للصناعات التقليدية له أيضا مساهمة كبيرة. فمنذ بداية إدارة صفية فرحات كان تبادل المؤسستين متواصلا ومتكاملا. وما يمكن استنتاجه، هو أن مئوية المعهد العالي للفنون الجميلة تمثل مناسبة وطنية باستحقاق، وهي تستوجب مشاركة جميع الأطراف المعنية دون استثناء بالاحتفال بمئويته.
ما ننتظره من هذه المناسبة، هو تسليط الضوء على التاريخ المطموس لهذه المؤسسة. فالأجيال الحالية قد فقدت الخيط الرابط مع ذاكرتها ومع من صنعوها. وما نأمله، هو تجميع شهادات من عملوا فيه من اداريين ومدرسين وفنانين وعملة. فللتفاصيل شأن كبير في المساهمة في كتابة التاريخ. فضلا عن البحث في أرشيف المعهد والمؤسسات المعنية وإنجاز دراسات حول الإشكاليات الهامة التي عرفها عبر مائة سنة من عمره. اما مقره الأول الذي انطلق منه عام 1923 بممرّ بن عياد بمدينة تونس العتيقة، فهو أيضا جزء كبير من هذا التاريخ ونرجو ان يتم ترميمه من قبل بلدية مدينة تونس وتوظيفه لما يفيد القطاع.
والمئوية هي أيضا وقفة تأمل لواقع الفنون التشكيلية والمعمار والتصميم في تونس على مستوى الممارسة والتدريس والبحث العلمي.
ولا يمنع في أن نستبق هذا التقييم بتقديم التساؤلات التالية:
هل انفصال تدريس المعمار عن تدريس الفنون التشكيلية والتصميم عام 1995 كان الخيار الأفضل؟
وهل تزايد عدد المعاهد خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وبالتالي في عدد طلبتها، كان فعلا في صالح قطاع الفنون التشكيلية والتصميم؟
وهل ان النظام الجامعي الجديد أمد الذي تم العمل به بالمعهد بداية من عام 2009 مناسبًا لخصوصيات المواد الفنية المُدرَّسة فيه؟
علما وأنه في المقابل، لم تتعدّد معاهد المعمار في تونس اذ أصر المعماريون على الاكتفاء فقط بالمعهد الوطني للمعمار بسيدي بوسعيد دون فتح أي مؤسسة ثانية في الاختصاص كما رفضوا العمل بنظام أمد.
معضلة كبيرة يعيشها المعهد منذ عقود تتمثل في تجاوره جنوبا مع مستودع شاحنات النقل لبلدية تونس والتي تتسبب في ضجيج وتلوث بيئي متواصل يطال قاعات الدروس. فهل من حلّ لهذه المعضلة الكبيرة؟
عديدة هي التساؤلات التي يمكن طرحها في هذه المناسبة. وما ننتظره من هذه المئوية ليست الاحتفالات المناسبتية الزائلة، بل برنامجا متكاملا تسهر على إعداده لجنة ممثلة لعديد الأطراف المعنية السابق ذكرها، يساهم في المحافظة على هذه المؤسسة والتقدم بها نحو الأفضل: ندوة بحثية تستشرف المستقبل تفضي الى كتاب، شريط فيديو موثق، معرض كبير يستعرض تاريخ هذه المؤسسة، إصلاحات على مستوى البنية الأساسية للمؤسسة... ويبقى المجال مفتوحا لكل المؤسسات الاقتصادية الرّاعية للمشروع.
يحق لجامعة تونس وإدارة المعهد استغلال هذه المناسبة بأوجه مختلفة.
سامي بن عامر
جريدة الشروق 16 فيفري 2023
الزبير التركي.
من جماعة مدرسة تونس
ولد الزبير التركي سنة 1924 وزاول تعلمه بجامع الزيتونة. وتلقّى خلال فترة قصيرة تعلما بمدرسة الفنون الجميلة بتونس ثم غادرها ليلتحق بمعهد الدراسات العليا حيث تلقى فيها تكوينا أدبيا إلى حدود 1946.
دَرَسَ الفنون طيلة سنتين في مدرسة الفنون الجميلة بستوكهولم. وعاش فيها طيلة ست سنوات. وعاد الى تونس عام 1958 ليلتحق بمدرسة تونس. وقد ساهم في تأسيس الاتحاد القومي للفنون التشكيلية والغرافية الذي ترأسه طيلة سنوات، مثلما ساهم في تاسيس الاتحاد المغاربي للفنون التشكيلية...
يعتبر الزبير التركي من اهم افراد جماعة مدرسة تونس. وقد كسب شهرة كبيرة في تونس لالتصاق مواضيع رسومه بالحياة اليومية التونسية ولقدرته الفائقة على رسم تعابير وجوه شخوص يستدعيهم من الذاكرة (الفلكلور)، او شخوص حية يعاشرهم في حياته اليومية. وما زاد في شهرته، اعتماد رسومه في الكتب المدرسية والطوابع البريدية ونشرها في الجرائد اليومية.
تحيلنا لوحته بعنوان "لاعبو الورق" (غواش على ورق- 65 على 85 سم - 1975) إلى مشهد داخلي لأحد المقاهي بالمدينة العتيقة يجمع ثلاثة شخوص حول رقعة صغيرة خُصّت للعب الورق. وما يثير الانتباه، تركيز الزبير التركي على ملامح هذه الشخوص بطريقة تجعلنا متأكدين أنها ليست من ضرب الخيال بل حقيقة. فالزبير التركي عندما يتحدث عن لوحاته لا يتردد دائماً في ذكر أسماء الشخصيات التي رسمها، مركزا على طباعها وقسمات وجوهها وملابسها وطريقة جلوسها. و في المقابل يرى أيضا أنها من محض خياله وحلمه.
ترتدي الشخصيات الثلاث ثيابا تقليدية تونسية كالشاشية والبرنس والفرملة، مما يحيلنا الى إطارها الثقافي والتاريخي وتتوزع على كامل مساحة اللوحة، تاركة مساحة صغيرة في أعلى اللوحة تبرز خلفيتها التي تتراءى لنا منها أعمدة المقهى الملونة. تجعلنا نشعر هذه النوعية في تأطير المشهد، وكاننا نلج هذا الفضاء الحميمي لهذه الشخصيات الثلاث إلى حدّ الإحساس بالانضمام إلى جلستهم. ولعل هذا ما كان يشعر به الزبير التركي إزاء هذه الشخوص التي يعتبرها جزءا منه.
يلتصق الزبير التركي بمحيطه الحضري وبمدينته التقليدية فيتفاعل مع تفاصيلها كما يتفاعل مع تفاصيل وجوه الشخصيات الحميمة التي يعيش معها، فيعبر عنها من خلال مقاربة تشكيلية ركّزت على الرسم الخطي Dessin، ميزت الفنان وسجّلت له مساهمة كبرى في تاريخ مسيرة الفنون التشكيلية في تونس وفي الوطن العربي عامة. انه يبدا في مداعبة خطوطه لتصبح بعدها مجال بحث معمق ومراجعة دائمة لا يستحضر نتائجها مسبقا الى ان تستقل بذاتها لتصبح منتجة للمعنى. بالنسبة له الرسم الخطي يسبق اللون. وهو اساس التعبير الذي يصبح متجاوزا للمرئي وللمواضيع الشعبية التي يتطرق اليها. يقول:"لم يكن الأمر يتعلق بالفولكلور. كان الفولكلور مجرد مادة وخامة وذريعة. لم يكن هذا هو الموضوع. ..."
زرت الفقيد في بيته برادس في مناسبتين عام 2007، وكان يتجول بي في اروقة المتحف الذي شيّده قرب بيته ليستقبل اعماله كاملة. كان دارسا لكل تفاصيل هذا المتحف ولكل زواياه واركانه. وكانت امنيته ان يصبح هذا المتحف حافضا لذاكرته، معرّفا بمسيرته وانجازاته الفنية، الا أن الايام حالت دون ذلك.
سامي بن عامر
جريدة الشروق 02 فيفري 2023
لطفي الأرناؤوط في ذمة الله.
(5 جانفي 1944- 28 جانفي 2023)
في يوم السبت 28 جانفي 2023، توفي الفنان التشكيلي لطفي الأرناؤوط ، وبذلك تخسر الساحة الثقافية أحد رموزها الفنية. رحمه الله رحمة واسعة ورزق اهله وعائلته الموسعة جميل الصبر والسلوان.
لطفي الأرناؤوط من مواليد سنة 1944 بتونس العاصمة. دَرَس بالمعهد الصادقي اختصاص فلسفة ثم تحصل على شهادة الدراسات المعمقة من المعهد التكنولوجي للفنون والهندسة المعمارية والتعمير بتونس. متحصل على جائزة الفن الحديث سنة 1986 وأقام عديد المعارض الشخصية منذ سنة 1965 مثلما شارك في عديد المعارض الجماعية منذ 1962. وهو عضو مؤسس لجماعة الستة سنة 1964 وهو نفسه الذي اقترح تسميتها. وعضو مؤسس لاتحاد الوطني للفنون التشكيلية سنة 1967 والذي يُعرف اليوم باتحاد الفنانين التشكيليين.
ابتدا لطفي الأرناؤوط مسيرته الفنية منذ الستينات مركزا في رسومه على أسلوب غنائي معتمدا في ذلك مسطحات لونية، يعمد إلى فصلها بخطوط محيطية تساهم في إبراز إشعاع ألوانها بحكم التباين النوعي بين المساحات الملونة والخطوط االداكنة التي تحيط بها. الا انه ومنذ الثمانينات اهتم بالطبق النجمي ، ليصبح بذلك من ضمن الفنانين الذين وجدوا في العودة الى المخزون التراثي غذاء لفنهم.
في لوحته "تكوين "- 108/108سم، زيت على خشب، شارك بها في المعرض السنوي لاتحاد الفنانين التشكيليين لسنة 1999 بقصر خير الدين بمدينة تونس- تطالعنا أشكالا هندسية تستمد جذورها من الأشكال التزويقية المعتمدة في الفن العربي الإسلامي والمؤسَّسةعلى مبدأ التكرار، مما يحيلنا إلى مفهوم المفردة التشكيلية الذي يمثل تكرار نفس الشكل باعتماد التجاور، وهو ما يفضي الى توليد لأشكال جديدة مثل ما نلاحظه في الجليز وفي النقش العربي الإسلامي عموما. وتتمثل المفردة التشكيلية في لوحة الأرناؤوط في مربع ضلعه خمسة وعشرون سم ، كرّره ستة عشر مرة، معتمدا في ذلك على مبدأ التّجاور مما أسس لظاهر شبكي. وما تختص به هذه المربعات المتماثلة والموزعة على كامل مساحة اللوحة، انبثاق الضوء فيها من نقطة مركزية في شكل نجمة وفي اتجاه أطراف مساحاتها.
تمثل المفردة التشكيلية، نتيجة بناء يتحصل عليه الأرناؤوط انطلاقا من حركة دوران لشكل المربع حول مركز واحد مضيء، ليفضي في النهاية إلى بناء طبق نجمي، تمتدّ أشكاله من المركز في اتجاه كل أطراف المربع. وللتركيز على البؤر الضوئية التي تُشعُّ انطلاقا من مراكز هذه المربعات المتجاورة، يستعمل لطفي الأرناؤوط ضمن كل مربع، بدءا من أطراف المربع وصولا الى وسطه، تدرجا ًضوئيا من الداكن الى الفاتح للازرق، ليشعرنا بشكل دائري، يصبح هو ذاته مساهما في إبراز الحركة الدائرية التي تعبّر عنها الاطباق النّجمية.
ان المفردة التشكيلية التي يعتمدها الأرناؤوط والتي يعمد إلى تكرارها ليفضي الى بناء شبكي، تصبح منطلقا لتوليد جديد للشكل. فآلمفردة الواحدة والمنعزلة، ليست تلك المتكررة التي تفضي إلى الكل. بل إن حجم التكرار أيضاً يصبح محدّدا لطريقة إدراكنا لها.
إن في تكرار المفردة، توالد لأشكال جديدة. لذلك تصبح أهمية المفردة ليس في ذاتها بل فيما تفضي إليه ضمن الشبكة الناجمة عن تكراره.
ولعل ها الأسلوب في التعامل مع الاشكال، مثَّل الرّكيزة الاساسية للفن الاسلامي الزّخرفي الهندسي والذي سعى الى توضيفه فنانون تشكيليون تونسيون آخرون.
قضّى لطفي الأرناؤوط آخر فترة من حياته بدار المسنّين بقمرت وتوفي فيها. وهي وضعية نأسف لها ونخجل منها.
سامي بن عامر
جريدة الشروق 17 نوفمبر 2022
الفوتوغرافيا الاستشراقية في تونس... "لينارت" والأطفال العراة
مواصلة للمقال الذي نشرناه يوم الخميس الفارط والمتعلق بالرسم المسندي الاستشراقي في تونس، نتطرق في هذا الملحق الى مسالة الصورة الفوتوغرافية الاستشراقية التي دخلت إلى تونس مع بداية الحماية الفرنسيّة. إذ راهن المستعمر عليها للأهمّية الكبرى الّتي تلعبها إعلاميًّا وسياحيًّا وإيديولوجيًّا، فدَعّم المصوّرين الفوتوغرافيين خصوصا لإنتاج بطاقات بريدية تُبرز الطّابع التونسي كما يرونه هم، بهدف جذب المواطنين الفرنسيّين للمستعمرة والاستقرار فيها. وتمّ إنجاز الآلاف من الصّور الفوتوغرافيّة المتعلّقة بتونس في أواخر القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين، وما زال الكثير منها موجودًا إلى اليوم بحوزة بعض المجمعيّن التّونسيّين.
أفضى هذا الاهتمام بالصّورة الفوتوغرافيّة إلى استقرار مجموعة من الفوتوغرافيين الفرنسيّين وغير الفرنسيّين في تونس، أمثال سولر SOLER وغاريغ GARRIGUES والّذين فتحوا محلات تجارية للتّصوير الفوتوغرافي، بدءًا بالعاصمة ثم ببعض ولاياتها. واهتموا أساسًا منذ البداية بتصوير الطّابع الغرائبي والعجائبي كما كانوا يرونه في تونس من خلال أسلوب استشراقي. ومن بين هؤلاء الفوتوغرافيين رودولف لينارت (1878-1948) Rudolf LENHERT الذي تطرح تجربتُه أكثر من سؤال.
ولد رودولف لنارت سنة 1878 بالنمسا وتوفي في تونس سنة 1948. وهو فوتوغرافي متحصل على الجنسية الفرنسية، سافر الى صقلية ثم اكتشف الشرق في تونس سنة 1903. وعند عودته التقى برجل الاعمال السويسري. Ernst Landrock واتفقا الاثنان على بعث شركة في تونس تحت تسمية "لانارت ولندورك". انطلقت هذه المؤسسة تشتغل في منزل قرب الجامع الكبير بتونس العاصمة ثم تحوّلت الى شارع فرنسا سنة 1907. ولقيا نجاحا كبيرا، ما جعل إنتاجهما الفوتوغرافي ينتشر في تونس وفي كل العالم. أعمال "لينارت ولندروك" تتمثل في صورٍ لأطفال إناث وذكور في حالة عراء جزئية أو كاملة.
نشاهد مثلا في أحدها، ابنتان عاريتان في سن الثانية عشر من العمر واقفتان أمام جدار نتبيّن فيه الجليز التونسي التقليدي، مما يحيلنا إلى طبيعة المكان، حيث نستنتج هُوية هذه الشخوص المصورة. ومثل هذه الصور الخليعة كثيرة جدّا. فلينارت جاب كامل تراب البلاد التونسية للحصول على مثلها. وقد طغى عموما على تمثّلات الاستشراقي للمرأة الشرقية وللأطفال أيضا إيناثا وذكورا، الطابع الغِوائي والهيروسي الخاضع لما يفرضه عالم اللذة الذي يحلُم به. وما يزيد الطين بلة، أن هذه الصور التي استخدمت كبطاقات بريدية، جابت أرجاء العالم.
وإثر الحرب العالميّة الأولى، أُغلق محل لينارت ولاندروك بتهمة التجسّس، فسُجن لينارت خارج تونس ومنع من العودة إليها. أمّا لاندروك فقد عاد إلى سويسرا ليصبح ممنوعًا من السفر. إلّا أن لينارت استطاع أن يرفع الحظر عليه بعد أن وجّه رسالة إلى الرسّام الروسي روبتزوف، يصف له فيها تعلّقه بسيدي بوسعيد وبتونس، فتم التّرخيص له بالعودة لفترة سنتين 1920- 1922. وبعدها سافر إلى مصر ليُتمِّم مسيرته هناك، قبل أن يعود من جديد إلى تونس ويتوفّى فيها.
عُرضت بعض الصور الفوتوغراقية للينارت في معرض "الصّور المنكشفة، من الاستشراق إلى الفنّ المعاصر" الّذي نظّمه المعهد الفرنسي للتعاون بقصر خير الدّين، مدينة تونس، من 20 إلى 4 نوفمبر 2006. وفي الندوة الصّحفية الّتي خُصت لهذا المعرض، صرّحت الفنّانة الجزائرية زليخة بو عبد الله والمُشاركة فيه، بأنّها تشعر إزاء هذه الصّور وكأنّها ترى جدّتها عارية.
سامي بن عامر
جريدة الشروق 23 فيفري 2023
من جماعة مدرسة تونس
الهادي التركي
1922- 15 مارس 2019
الهادي التركي هو من أحد روّاد الحركة التشكيلية التونسية المنتمين الى مدرسة تونس، وقدّم خلال أكثر من ستة عقود أثرا فنيا هاما، عُرف بخصوصيته وتميُّزه.
ولد بتونس العاصمة. وكان تكوينُه الأوّلي في مجال الرسم، تشخيصيا أكاديميا. فرسم الطبيعة الصامتة والوجوه. وأول معرض قدّمه كان في عام 1942 . وقضّى خلال 1959 تربّصا بالولايات المتحدة الأمريكية وسافر أيضا إلى ايطاليا وسويسرا. درّس بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس بداية من سنة 1963 إلى 1990. وفي بداية الثمانينات ترأّس الاتحاد الفنانين التشكيليين بعد ان تمّ حل الاتحاد القومي للفنون التشكيلية والغرافية. كما كان عضوا في الاتحاد العربي للفنون التشكيلية وفي الهيئة التنفيذية للجمعية العالمية للفنون التشكيلية التابعة لليونسكو.
وإن استوحى الزّبير التركي شخوصه ومواضيعه من مناخه الاجتماعي والتّراثي، مثل عديد الفنانين المنتمين الى مدرسة تونس، فإن أخاه الهادي التّركي، مثله مثل ادغار نقاش (1917ـ2005) وحسن الصوفي، وجميعهم منتمين لهذه الجماعة، قد اهتموا بمقاربات حديثة تجريدية. وقد استلهم الهادي التركي هذا التوجه من سفراته في الغرب، اذ تراوحت اعمالُه الفنية في مرحلة ثانية، بين التجريدية ذات الأشكال النقية والتجريدية التعبيرية. أما في المرحلة الأخيرة، فقد ركّز على رسوم تجريدية، تُبرز نسيجا من خطوط عمودية تتقاطع مع أخرى أفقية، موزّعَة فوق خلفية متكوِّنة من مساحات لونية مختلفة، تفضي إلى تأثيرات بصرية تحدّد طريقة إدراكنا لهذه الرسوم.
والجدير بالملاحظة، أن الهادي التركي لم يتوقّف عن ممارسة الرسم الخطي Dessin طوال مسيرته الفنية. فرسم عديد الوجوه لمختلف الاعمار باسلوب تصويري اتصف بتلقائيته وبخطوطه ذات الذبذبات البصرية.
لوحته "انعكاس"،( 1980. زيت على قماش. ) هي من ضمن سلسلة أعماله التجريدية التي اهتم فيها بتقاطع الخطوط الأفقية والعمودية. وقد أكد الهادي التركي في عديد المناسبات أن هذه الخطوط المتقاطعة التي يواصل اعتمادها في رسومه، ناجمة عن احد الصور التي بقيت عالقة في ذاكرته بطريقة لا شعورية، وهي تحيله إلى مِنسج جدِّه والى تقاطعات خيوط هذا المنسج الملونة والشفافة التي طالما تأملها حينما كان طفلا.
يستلهم الهادي التركي سلسلة اعماله هذه من الفن الحركي. فما يحدث عندما نُركّز بصرنا على هذه اللوحة وعلى مثيلاتها، هو الإحساس بالذبذبات البصرية وبتفاعل الوانها فيما بينها. تفاعل يحيلنا إلى مزج بصري يصبح منطلقا لتأثيرات لونية افتراضية تأخذ مصدرَها من العين ذاتِها ولا من اللوحة. مبعث هذا المزج هو خِدعة بصرية ناجمة عن طبيعة شبكية العين التي تصبح غير قادرة على التفريق بين خطوط جدُّ متجاورةٍ. وهو ما يجعله أساسَ تعبير اللوحة وموطنَ أبعادها الفنية. وقد أحسن الفنان الهادي التركي استعمال هذا المزج في رسومه هذه الشبيهة بسنفونيات موسيقية.
في سنة 2004 صادف ان نزلنا معا الى توزر لحضور فعاليات مهرجانها الدولي للواحات السّنوي. وكنا كلما توقفنا في طريقنا في احد القرى أوالمدن ، يهرع العديد من الناس بغية التحدث مع "عم الهادي التركي"، الذي اكتشفوا طيبته ودماثة اخلاقه وتواضعه في برنامج الكاميرا الخفية الذي تمّ بثه على القناة التلفزية الوطنية في تلك الفترة وشدّ انتباه الجميع.
أصيب الهادي التركي في آخر حياته بمرض ألزمه الفراش ومنعه من ممارسة الرسم خلال اكثر من عقد.
سامي بن عامر
جريدة الشروق 26 جانفي 2023
من جماعة مدرسة تونس:
يحيى التركي 1902- 1969
نتناول تباعا خلال الاسابيع القادمة، اعمال بعض الفنانين التونسيين المنتمين الى جماعة مدرسة تونس، التي كانت موضوع مقالنا في العدد الاخير، بدءا بيحيى التركي، اول رئيس تونسي سمي على راس هذه الجماعة والملقب ايضا بأب الرسم التونسي.
ولد يحيى التركي سنة 1901 في تونس العاصمة وزاول دراسته الابتدائية بالصادقية وبمعهد كارنو، الا انه وبسبب ظروفه الصحية تعذر عليه مواصلة دراسته فاشتغل في الإدارة المالية. شارك لأول مرة في الصالون التونسي سنة 1923. تحصل على منحة لدراسة الفن إلا انه فضل مواصلة تكوينه العصامي. سافر إلى باريس حيث تعرف على الفنانين والحركة التشكيلية هناك وخصوصا على مدرسة باريس وعرض في قاعة tédesco في باريس سنة 1931 وأصبح بعد الحرب العالمية الثانية احد أعضاء مدرسة تونس ثم رئيساً لها سنة 1956. وبعد وفاته تم إطلاق اسم يحيى على قاعة العروض لبلدية تونس.
في لوحته "نساء في فضاء داخلي"، زيت على قماش وهي من ضمن مقتنيات الدولة التونسية، نتبيّن امرأتين واقفتين على سجاد مزخرف داخل فضاء معماري يتميز بأقواسه وأعمدته ذات الطابع العربي الإسلامي وتحتلان هذين الامراتين ثلثي مساحة اللوحة تقريبا.
تختص هذه الأخيرة بواقعيتها وببساطة موضوعها ونقاوة ألوانها وفضائها المضيئ . يركز يحيى التركي على الملامح الأساسية في شخوصه التي يرسمها، معتمدا في ذلك اقتصادا في الخطوط وإطنابا في إشراق الألوان وضيائها. يختزل خطوطه التي يمررها بفرشاته ليبرز حد مساحات شخوصه وفضاءاته المعمارية. فأشكاله تحيلنا بطريقة قصديّة إلى مساحات مسطحة رغم ما توحي به أحيانا من بعد ثالث. لذلك هو يؤكد على الطابع التسطيحي للألوان مثل المساحات البنية الملونة لبشرة المرأتين أو المساحة ذات اللون الفيروزي لثياب المرأة اليمنى وغيرها من المساحات الملونة والمسطحة لأشكاله التشخيصية والمعمارية.
وما يزيد في إبراز الطابع المسطح في هذه اللوحة، اعتماد يحيى التركي توزيع أشكاله الزهرية على كامل المساحات التي خصها لثياب المرأتين وللسجاد. ولعل هذا يحيلنا إلى الفنان الفرنسي ماتيس الذي اعتمد على نفس هذا الأسلوب، مستلهما من الارابسك العربي الإسلامي طابعه الانتشاري على المساحة، للتركيز على البعد المسطح للوحاته، مما يمكنه من تجاوز المنظور الذي اتصف به الرسم الكلاسيكي.
لقد كان يحيي منتبها لما يحدث على الساحة التشكيلية العالمية ولقد استطاع أن يتفاعل مع مستجداتها بطريقة ذكية وشخصية مع الإبقاء على خصوصيته.
ولقد كان يحيى من أهم الفنانين المؤثرين على الحركة التشكيلية بحكم أسبقيته في الزمن وبحكم حضوره المتواصل على الساحة الثقافية. انه أب للرسامين التونسيين.
كتب الشاذلي القليبي في الذكرى الاولى للرسام يحيى التركي التي نظمت بدار الثقافة ابن رشيق:
"شيعت تونس إلى مثواه الاخير علما من اعلام فن الرسم ، لعله اول تونسي اخذ على عاتقه ان يقتبس هذا النوع الجديد من التعبير ، فغرسه في التربة الوطنية واضفى عليه ما يلائمها من الوان وأحاسيس وعواطف، حتى جعل منه فنا تونسيا اصيلا. وقد كان يحيى يعتبر بحق شيخ الرسامين التونسيين بسبب هذا السبق الذي امتاز به، ولكن أيضا لهذه الأصالة التي تميز بها، ولهذه السهولة التي تكسب لوحاته مسحة من العفة في أقرب إلى السهل الممتنع منها إلى سماجة الرسامين الفطريين."
سامي بن عامر
جريدة الشروق 24 نوفمبر 2022
بول كلي ليس ككل المستشرقين... رحلته الى تونس
إن جنح أغلب المستشرقين إلى التّركيز على الأبعاد الغرائبيّة والسّياحيّة الّتي انطبعوا بها خلال زياراتهم لبلدان المغرب، فإنّ آخرين مثل بول كلي (1879-1940) وهنري ماتيس (1869-1954) تجاوزا هذه الرّؤية، ليتقمّصا أساسًا دور المبدع، وهو ما جعلهما يفرزان تغيّرات إسطيتيقية وإنشائيّة مهمّة جدًّا أثّرت على الفنّ الحديث عمومًا.
ونركز في مقالنا اليوم على بول كلي الذي زار تونس، سنة 1914، برفقة صديقَيْه لويس مواليه (1880- 1962) وأوغوست ماك (1887-1914). واستطاع من خلال رحلته أن يتمعّن في العلامات والرّموز الّتي طبعت فنّ المعمار والنّقوش الإسلاميّة ليقحمها في فنّه، بعيدًا عن النّظرة الغرائبيّة الّتي تعوّد عليها من سبقه من الفنّانين المستشرقين الغربيّين.
ونحن حين نقرأ اليوميات الّتي تركها، نشعر أنه كان يعيش رحلته بكل ما أوتي من حواس قادرة أن تفتح له باب الإدراك لهذه المعطيات الجديدة الّتي يكتشفها. فعَكَسَ لنا الإيقاعات الصّوتيّة الّتي كان يستمع إليها وهو يزور حلق الوادي، كما عبّر عن إيقاعات الأشكال المعماريّة في الحمامات والقيروان. وفي هذه المدينة، كان لديه هذا التنوير الذي أرّخه في مذكراته: "اللون يمتلكني. لست بحاجة إلى الاستيلاء عليها بعد الآن. لقد فازت بي إلى الأبد، وأنا أعلم ذلك. اللون وأنا واحد. أنا رسام." لقد كشف عن روحانيته العميقة، ونظرته الصّوفية، وحتى تصوّفه.
استلهم من العلامات الكتابية المستوحاة من الوشم وزربيّة الجنوب التّونسي. وانتبه إلى فنّ الزّخرفة والتّوريق الهندسي والنّباتي الّذي قام على أساسه الفنّ العربي الإسلامي والموظّف خصوصًا في المعمار مثلما نشاهده في لوحة طريق قصر القرية 1937، حيث تحوّلت الخطوط المستقيمة والمنحنية في هذه اللّوحة إلى أغصان ملتوية وملولبة بتفاصيل أوراقها وزهورها المتكرّرة. أمّا في اللّوحة بعنوان فتيان غرباء جدّا، 1938 فنلاحظ فضاء تصويريًّا يستمدّ مقوّماته من النّسيج اليدويّ المتأصّل في تونس. ومثل هذه الأشياء الخفيّة، تمثل مركز اهتمام بول كلي. وهو الّذي كتب «لا يعيد الفنّ إنتاج المرئي، بل يجعله مرئيًّا».
بقدر ما يعطي بول كلي في أعماله حضورًا للعلامات والرّموز المستمدّة من المحليّة التّونسيّة، فإنّه يخلق تميّزًا فيها، يفضي إلى تعبير عن إمكاناته الإبداعية المتفرّدة.
إذا كانت زيارة بول كلي إلى تونس تمثل نقطة انطلاق جديدة وحاسمة في رحلته الفنية، فهي بالأحرى بفضل نظرته الأصيلة والحسّاسة والإنسانية تجاه العالم من حوله. لقد تفاعل مع المرئي بصفته مبدعًا مستقلًا، لتصبح أعماله الفنية بحثًا عن أسرار الطبيعة وألغازها ومصدرًا للشّعر والمغامرة والاكتشاف والتّأمل العميق والنّقد الذاتي. وهذا ما يميِّزه عن غيره من المستشرقين.
كتب جان دوفينيو (1921-2007) Jean DUVIGNAUD متحدثا عن بول كلي:
«مع ذلك، فإن الرّحلة إلى تونس، التي تكشف له حيوية ثقافية من حيث نشاطها المعتاد وواقعها اليومي وشخصياتها الرّمزية وتواصله المكثف مع العباد، لا تؤدي بالضرورة إلى شكل ثابت.. عالم جسدي حيث قد لا تولِّد البذور تسميات مستقرة».
تأثير بول كلي في عديد الفنّانين التّشكيليّين المغاربة متأكد. أولئك الّذين وظفوا هذا الزّاد الزّاخر من العلامات والرّموز الّتي تتميّز بها الفنون المحليّة كالموروث البربري خصوصًا والفنون العربيّة الإسلامية عمومًا.
سامي بن عامر
جريدة الشروق 10 نوفمبر 2022
الرسم المسندي في تونس...
في البداية كان الاستشراق
اهتمّ الفنّان الغربي منذ فترة طويلة بما يختزنه الشّرق من أبعاد روحية عمل على توظيفها. وقد بدأ هذا الاهتمام خصوصًا خلال القرن التّاسع عشر، وتطوّر خلال القرن العشرين. فظهر الاستشراق مع الفنّانين الغربيين الّذين زاروا دُول المغرب والمشرق العربي. ولقد ركزوا على الأبعاد الغرائبيّة والسياحيّة الّتي انطبعوا بها خلال زياراتهم، أو الّتي تعرّفوها عبر أعمال من زاروا تلك البلدان.
وفي تونس وجد الرسامون المستشرقون الفضاء المناسب في الصالون التونسي الذي تم افتتاحه سنة 1894، لفرض حضورهم رسميا على الساحة الثقافية، فأنتجوا ما سُمِّي بالفن الاستعماري الذي ارتبط جلّه بأيديولوجيا المستعمر، وتأسّس على قيم تقليدية تعتمد على الواقعيّة Réalisme التوثيقيّة والاستشراقية، تُغذّيها الرّغبة في تعرّف الأشياء المجلوبة والغريبة.
وكتب المؤرخ لوران هوسايس حول أهداف معارض الصّالون التونسي": "كان الهدف ..."أن تُقدَّم المساهمة في تنمية الاستشراق، وأن يُبعث، وليس دون خلفية فكرية سياحية، فنٌّ من شأنه أن يُعرِّف أكثر بالحماية وأن يكون حافزًا على التّعلق بها».
وأوّل معرض للرسم المسندي كان للفنّان الشاب لويس شالون (1866-1940) بدعوة من معهد قرطاج، وقد كان مصحوبًا بمجموعة أخرى من الفنّانين. اما الصالون الثاني فقد فتح في 8 ماي 1895 في قصر كوهان، وشارك فيه لويس شالون ودياس وشارل لالمان (1857-1938) ونظم الصّالون الثالث سنة 1896 في فضاء خاص للكونت لندون لونجيفيل (1930-1844) وهو عضو بمعهد قرطاج، وشمل مشاركات عديدة من الفنّانين. وفي سنة 1897، فُتح الصّالون الرّابع الّذي شاركت فيه مجموعة هامة من المستشرقين من بينهم إيتيان دينيه (1861-1929) ...
كتب أوغست بافي الكاتب العام لمعهد قرطاج بمناسبة افتتاح الصالون الخامس الذي انعقد في سنة 1898 مُعبّرًا عن طموحه وعزيمته في جعل الصّالون التّونسي موعدًا إجباريًّا للفنّانين المستشرقين:
«هل عليّ أن أبوح (....) بأفكاري الأكثر سرية وأن أقول لكم آخر كلمة لطموحاتنا؟ هو أن نجعل تونس وببطء، المركز الحقيقي للفنّ الاستشراقي وأن نحوِّل بطريقة متدرِّجة الصّالون التونسي ليصبح موعدًا إجباريًّا لكل الغيورين على الاستشراق في المجال الفني».
إن الصّورة الشّكلانيّة الّتي نحتها الرسّام المستشرق وضمّنها تخيّلاته للشّرق قد أصبحت منتشرة ومتناولة في الكتب ومتناقلة لدى جموع الناس، وهو ما جعل منها مصدرًا أساسيًّا في تحديد صورة الشّرق عند عامة النّاس في الغرب. وما بحث عنه الرسّامُ هو الاستشراقُ لا الشرقُ، بل النّظرة الّتي أراد أن يسقطها عليه. فطغى عمومًا على تمثّلات المستشرقين للمرأة الشّرقيّة الطّابع الغوائيّ والإيروسيّ. إذ يصبح جسد المرأة عمومًا في أعمالهم، جسدًا حيوانيًّا يخضع إلى ما تفرضه الغريزة وعالمًا للذّة يحلُمون به.
ولقد قدّم إدوارد سعيد (1935-2003) في كتابه "الاستشراق" نقدًا للطريقة الّتي تعامل بها الغرب مع الشّرق، وبيّن كيف أن الاستشراق هو معرفة تتحوّل في يد السّلطة السّياسيّة إلى هيمنة. كما وضّح أن الشرق لا يُنظر إليه في واقعه الحميم، بل من منظور غربيّ مُسقَط وهو ما يتسبّب في حصول الخلط والتحريف.
من المستشرقين الذين أقاموا في تونس ودُفنوا بها، الروسي ألكسندر روبتسوف (1884 - 1949) الذي قضى معظم حياته في تونس واستطاع جلب احترام الجمهور، والفوتوغرافي النمساوي المجري رودولف لينرت (1878-1948) الذي عُرف بصوره الشّبقية لأطفال إناث وذكورٍ في حالة عراء جُزئية أو كاملة.
سامي بن عامر
الشروق 1 ديسمبر 2022
الصالون التونسي.. قرن من النشاط
(1894 – 1984)
الصّالون التّونسي، مؤسّسة أحدثها "معهد قرطاج" للتّعريف باللّغة والثّقافة الفرنسية. حدث ذلك سنة 1894، أي بعد ثلاث عشرة سنة من إمضاء معاهدة باردو في 12 ماي 1881. وهي فترة استطاع الفرنسيون خلالها بسط نفوذهم على المستعمَرة التونسية. وكان يهدف هذا الصّالون إلى تنظيم معارض الفنّانين وخصوصا إلى تلميع صورة الحماية الفرنسيّة بإعطائها أبعادا ثقّافيّة وعلميّة، حيث كان الأداة الأساسيّة لإرساء الإيديولوجيا الجماليّة الّتي اتصف بها الفنّ الاستعماري في ذلك الحين، والذي سيكون لها التّأثير الكبير على مسيرة الحركة التّشكيليّة في البلاد التّونسيّة.
ولا غرابة إن كان المستعمر المستوطن في تونس يرى أن ما كان يجلبه من فرنسا من فكر وفن، هو من قبيل «الحق والجمال». ففي النّص التّقديمي لعدد 13 من "المجلّة التونسية" Revue tunisienne التّابعة لـ"معهد قرطاج" والصّادر سنة 1897 والمتزامن صدوره مع وفاة جان بابتيس سارفونات (1849-1896) نائب الرّئيس الشّرفي لمعهد قرطاج في تلك الفترة، أشاد رئيس معهد قرطاج السيد بويسون بخصال الفقيد قائلا: «كان يرى أنه في الاشتغال على التّطوير المادي لبلدانهم الحاضنة، كان يحقّ للفرنسيين في تونس أن يحملوا من بلدهم الأصلي ذوقهم للأشياء الرّوحية وعبادتهم للحقّ والجمال».
كان الصّالون التونسي، الفضاء الملائم لتقديم أعمال الفنّانين الفرنسيّين والأوروبيين الّذين استقرّوا في تونس خلال فترة الحماية الفرنسيّة، فأنتجوا فنّا تُغذّيه الرّغبة في التّعرّف على الأشياء المجلوبة والغريبة. إلّا أنه وفي المقابل، كان أيضا الأداة للخروج بالرّسم المسندي من قصور البايات وعرضه في قاعات تجارية مفتوحة للعموم، ممّا مكّن الكثير من التّونسيّين من اكتشاف هذا النّوع من الفن.
ولقد أفضى النّجاح الباهر الّذي لَقيَه الصّالون الأول الذي افتُتح يوم 11 ماي 1894، إلى إعداد سلسلة من المعارض.
شارك في الصّالون في بداية القرن العشرين، نخبة من اليهود من أهل البلد، مثل موريس ليفي وجول للوش وموريس بزموت ثم اقتفى أثرهم بعض أفْرادٍ من التونسيين. فمشاركة عبد الوهاب الجيلاني تعود الى سنة 1912. وبعده يحيى التركي سنة 1923، وسار على منوالهما كلٌّ من علي بن سالم وعبد العزيز بن الرّايس وعمّار فرحات وحاتم المكي...
ورغم تواصل نشاط "الصالون التونسي" واستقطابه لعديد الفنانين، فإن جلّ الفنانين الكبار والنقاد الذين تابعوه لم يتركوا إزاءه انطباعا إيجابيا. فبيار بوشارل (1894-1988) الذي أسّس "مدرسة تونس"، كان من دواعي مبادرته هذه، بعث مؤسسة جديدة تستقبل الرسامين المتميزين بدلا من الصالون التونسي الذي كان يعتبره صالونا للهواة. أما أرمان فارجو، الرّسام ومدير مدرسة الفنون الجميلة بتونس (1930 -1949)، كان أيضا يتبنّى نفس هذا الموقف السّلبي إزاء هذه المؤسسة.
وتنقّل "الصالون التونسي" من مكان إلى مكان آخر، الى أن استقر في الأخير بالرِّواق البلدي للفنون، "رواق يحيى"، إلى أن أغلق سنة 1984، بعد مرور قرن عن تأسيسه.
صحيح ان "الصالون التونسي " اعتُمد منذ اواخر القرن التاسع عشر، كجهاز لتمرير إيديولوجية المستعمر، إلا أنه كان في الآونة ذاتها، الفضاء الذي مكّن عديد الفنانين التونسيين من الظهور والتعريف بأعمالهم.
سامي بن عامر